القدس عبر التاريخ
القدس عبر التاريخ
حظيت مدينة القدس، وما تزال، بمكانة عظيمة في التاريخ الإنساني، وتميزت بخصوصية الزمان والمكان. فهي في الزمان ضاربة جذورها منذ الحضارة العربية الكنعانية، أما بالنسبة لخصوصيتها المكانية، فقد شملت الموقع والموضع، فكانت ملتقى الاتصال والتواصل بين قارات العالم القديم، تعاقبت عليها الحضارات، وأَمّتها الجماعات البشرية المختلفة، مخلفة وراءها آثارها ومخطوطاتها الأثرية، التي جسدت الملاحم والحضارة والتاريخ، دلالة على عظم وقدسية المكان.
ولابد أن يكون لمثل هذه الظاهرة الحضارية الفذة أسباب ومبررات، هي سر خلودها واستمرارها آلاف السنين، رغم كل ما حل بها من نكبات شوحروب أدت إلى هدم المدينة، وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة عبر التاريخ، وفي كل مرة كانت تخرج أعظم وأصلب وأكثر رسوخا من سابقتها، دليلا على إصرار المدينة المقدسة على البقاء، فمنذ أن قامت (القدس الأولى) الكنعانية قبل نحو 6000 سنة، وهي محط أنظار البشرية، منذ نشأت الحضارات الأولى في (فلسطين ووادي النيل والرافدين)، مروراً بالحضارة العربية الإسلامية، وحتى يومنا هذا.
يقدر علماء الآثار أن تاريخ مدينة القدس يرجع إلى حوالي ستة آلاف سنة، كما أكدت الحفريات التي قامت عليها المدرستان: الفرنسية، والبريطانية، برئاسة الأب “ديفو” وبانضمام “رويال أنتوريا” برئاسة الدكتور “توستينج هام”، ومشاركة جامعة “تورنتو” في كندا عام 1962، حيث اعتبرت هذه البعثة، أن ما تم التوصل إليه خلال موسم الحفريات من نتائج عن تاريخ مدينة القدس، لا تعدو كونها معلومات مزيفة، تعيد صياغة تاريخ القدس وفقاً لما ورد في التوراة، التي تقصر تاريخ المدينة المقدسة على ثلاثة آلاف عام.
العموريون والكنعانيون:
وفقا للتقديرات التاريخية، فان الهجرة العمورية-الكنعانية من الجزيرة العربية، قد حدثت خلال الألف السابع قبل الميلاد، وتم التوصل إلى ذلك من خلال تتبع الآثار في مدنهم القديمة، ولعل أقدمها مدينة أريحا الباقية حتى اليوم، والتي تعتبر أقدم مدينة في العالم، وإن تأرجحت تقديرات البداية الزمنية لوجود الكنعانيين. فإنه لا جدال على أنهم كانوا أول من سكن المنطقة من الشعوب المعروفة تاريخيا، وأول من بنى على أرض فلسطين حضارة.
حيث ورد في الكتابات العبرية، أن الكنعانيين هم سكان البلاد الأصليين، كما ذكر في التوراة أنه الشعب الأموري. والكنعانيون هم أنفسهم العموريون، أو ينحدرون منهم، وكذلك الفينيقيون، فقد كان الكنعانيون والفينيقيون في الأساس شعباً واحداً، تجمعهما روابط الدين واللغة والحضارة، ولكن لم تكن تجمعهما روابط سياسية، إلا في حالات درء الخطر الخارجي القادم من الشمال أو الجنوب.
ووفقاً للتوراة، فإن أرض كنعان كانت تمتد من أوغاريت (رأس شمرا) حتى غزة، وقد تم العثور على قطعة نقود أثرية كتب عليها “اللاذقية في كنعان”، وفي تلك الفترة توصل الكنعانيون إلى بناء الصهاريج فوق السطوح، وحفر الأنفاق الطولية تحت الأرض؛ لإيصال المياه إلى القلاع، ومن أهم هذه الأنفاق نفق مدينة “جازر” التي كانت تقع على بعد 35كم من القدس.
وكذلك نفق يبوس (القدس)، حفره اليبوسيون، وجاءوا بالمياه إلى حصن يبوس من نبع “جيحون”.
اليبوسيون بناة القدس الأولون:
اليبوسيون هم بطن من بطون العرب الأوائل، نشأوا في قلب الجزيرة العربية. ثم نزحوا عنها مع من نزح من القبائل الكنعانية التي ينتمون إليها، وهم أول من سكن القدس، وأول من بنى فيها لبنة.
رحل الكنعانيون عن الجزيرة العربية، جماعات منفصلة، حطت في أماكن مختلفة من فلسطين،فسميت(أرض كنعان)، سكن بعضهم الجبال، بينما سكن البعض الأخر السهول والأودية ، وقد عاشوا في بداية الأمر متفرقين في أنحاء مختلفة، حتى المدن التي أنشأوها ومنها: (يبوس، وشكيم، وبيت شان، ومجدو، وبيت إيل، وجيزر، وأشقلون، وتعنك، وغزة)، وغيرها من المدن التي لا تزال حتى يومنا هذا، بقيت كل مدينة من هذه المدن تعيش مستقلة عن الأخرى، هكذا كان الكنعانيون في بداية الأمر، ولكن ما لبثوا أن اتحدوا بحكم الطبيعة وغريزة الدفاع عن النفس، فكونوا قوة كبيرة، واستطاعوا بعدئذ أن يغزوا البلاد المجاورة لهم، فأسّسوا كياناً عظيماً بقي فترة طويلة.
كانت يبوس في ذلك العهد حصينة آهلة بالسكان، تشتهر بزراعة العنب والزيتون. تعرف أنواعاً عديدة من المعادن منها النحاس والبرونز، وعرفوا أنواعاً عديدة من الخضار والحيوانات الداجنة، كما عرفوا استخدامات الخشب عن طريق الفينيقيين، فاستخدموه في صناعات السفن والقوارب، كما اشتهروا بصناعة الأسلحة والثياب والزجاج.
لقد أسس الكنعانيون واليبوسيون حضارة كنعانية ذات طابع خاص، ورد ذكــرها في ألواح (تل العمارنة).
وقد ظهر بينهم ملوك عظماء، بنوا القلاع وأنشأوا الحصون، وأنشأوا حولها أسواراً من طين، ومن ملوكهم الذين حفظ التاريخ أسماءهم، (ملكي صادق)، ويعتبر هو أول من بنى يبوس وأسسها، وكانت له سلطة على من جاوره من الملوك، وأطلق بنو قومه عليه لقب (كاهن الرب الأعظم).
كان ليبوس في ذلك العهد أهمية تجارية عظيمة؛ لوقوعها على طرق التجارة، كما كان لها أهمية حربية كبيرة؛ لأنها مبنية على أربع تلال، ومحاطة بسورين.
وحفر اليبوسيون تحت الأرض نفقاً يمكنهم من الوصول إلى “عين روجل” والتي سميت الآن “عين أم الدرج”.
كذلك كان فيها واد يعرف بواد الترويين، يفصل بين تل أوفل وتل مدريا- عندما خرج بنو إسرائيل من مصر، ونظروا أرض كنعان، ورأوا فيها ما رأوا من خيرات، راحوا يغيرون عليها بقصد امتلاكها… قائلين: “أنها هي الأرض التي وعدهم الله بها”، وبذلك أيقن الكنعانيون الخطر القادم، فطلبوا العون من مصر، ذلك لأن بني إسرائيل كانوا كلما احتلوا مدينة خربوها وأعملوا السيف فيها، أما المصريون فقد كانوا يكتفون بالجزية، فلا يتعرضون لسكان البلاد وعاداتهم ومعتقداتهم، ولم يتوان المصريون في مد يد العون إلى الكنعانيين، فراحوا يدفعوا الأذى مع الكنعانيين، ونجحوا في صد غارات العبرانيين.
وهناك بين ألواح تل العمارنة، التي وجدت في هيكل الكرنك بصعيد مصر، لوح يستدل منه على أن (عبد حيبا)، أحد رجال السلطة المحلية في أورسالم، أرسل سنة (1550 ق.م) إلى فرعون مصر تحتمس الأول رسالة، طلب إليه أن يحميه من شر قوم دعاهم في رسالته بـ(الخبيري) أو (الحبيري).
بنو إسرائيل:
في عهد الفرعون المصري (رعمسيس الثاني) وولده “مرن بتاح”، خرج بنو إسرائيل من مصر، وكان ذلك عام (1350 ق.م). لقد اجتازوا بقيادة زعيمهم “موسى” صحراء سيناء، وحاولوا في بادئ الأمر دخول فلسطين من ناحيتها الجنوبية، فوجدوا فيها قوما جبارين فرجعوا إلى موسى وقالوا له “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون” وبعدها حكم عليهم الرب بالتيه في صحراء سيناء أربعين عاماً.
وبعدها توفي موسى، ودفن في واد قريب من بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى الآن. ولقد تولى “يوشع بن نون” قيادة بني إسرائيل بعد موسى (وهو أحد الذين أرسلهم موسى لعبور فلسطين)، فعبر بهم نهر الأردن (1189 ق.م)، على رأس أربعة أسباط هي: راشيل أفرايم، منسه، بنيامين. واحتل أريحا بعد حصار دام ستة أيام، ارتكبوا أبشع المذابح، ولم ينج لا رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا طفل ولا حتى البهائم …ثم أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما فيها، بعد أن نهبوا البلاد، وبعدها تمكنوا من احتلال بعض المدن الكنعانية الأخرى، حيث لقيت هذه المدن أيضاً ما لقيته سابقتها.
و بعد أن سمع الكنعانيون نبأ خروج بني إسرائيل من مصر. هبوا لإعداد العدة، وعقد ملك أورسالم (ملكي صادق) حلفاً مع الملوك المجاورين له، وكان عددهم واحداً وثلاثين، مكونين جيشاً مجهزاً قوياً، ولذلك لم يتمكن يوشع من إخضاع الكنعانيين، ومات دون أن يتمكن من احتلال (أورسالم)، لأنها كانت محصنة تحصيناً تاماً، وكانت تحيط بها أسوار منيعة.
ولقد مات يوشع بعد أن حكم سبعاً وعشرين سنة، بعد موت موسى، وبعده تولى قيادة بني إسرائيل (يهودا) وأخوه (شمعون). وغزا بنو إسرائيل في عهدهما الكنعانيين مرة أخرى، وحاولوا إخضاعهم. ورغم أن الكنعانيين خسروا ما يقارب عشرة آلاف رجل في هذه المعركة إلا أن بني إسرائيل أرغموا على مغادرة المدينة.
عهد القضاة:
عاش بنو إسرائيل على الفوضى والضلال طيلة حكم القضاة، وعددهم أربعة عشر، وكان تاريخهم عبارة عن مشاغبات وانقسامات، حيث ارتد الكثير من الإسرائيليين عن دينهم، وتحولوا إلى ديانات الكنعانيين، وعبادة أوثانهم “كبعل” و”عشتروت”.
هذا بالإضافة إلى الانقسامات والانقلابات الداخلية التي دبت في صفوفهم. فكانوا يلتفون حول القائد الذي يتولى قيادة أمورهم سنة، ثم ينقلبون عليه ويعصون أوامره سنين.
وخلال هذه الفترة، ونتيجة هذه الفوضى؛ لم يذوقوا طعم الحرية والاستقلال أبداً، إذ حاربهم الكنعانيون وقضوا مضاجعهم أجيالاً طويلة، ومن ثم حاربهم المؤابيون، وألحقوا بهم الذل والهوان، ثم حاربهم المديانيون والعمونيون والفلسطينيون.
وكانت حروبهم مع الفلسطينيين الأشد ضراوة والأبعد أثراً، إذ أدت إلى انتحار “شاؤول” ملك العبرانيين سنة (1095 ق.م).
ويذكر لنا التاريخ أن المدن (الكنعانية- الفلسطينية) التي عجز العبرانيون عن فتحها، كانت ذات حضارة قديمة، وكانت المنازل مشيدة بإتقان، فيها الكثير من أسباب الراحة والرفاهية وكانت مدنهم، تشتهر بحركة تجارية وصناعية نشطة.
وكانت هذه المدن على علم ومعرفة بالكتابة، ولها ديانة كما لها حكومة سياسية أيضاً، لقد اقتبس أولئك العبرانيون السذج من مواطني المدن الكنعانية حضارة، لأنهم لم يستطيعوا أن يعيشوا بمعزل عن أهل هذه المدن التي عجزوا عن فتحها.
وقد أحدث هذا الامتزاج تغيرات جوهرية في حياة العبرانيين، فترك بعضهم سكنى الخيام، وشرعوا يبنون بيوتاً كبيوت الكنعانيين، وخلعوا عنهم الجلود التي كانوا يلبسونها وهم في البادية، ولبسوا عوضاً عنها الثياب الكنعانية. هذا حال العبرانيين الذين أقاموا في الشمال الخصيب، أما أولئك الذين أقاموا في الجنوب من فلسطين، فقد حافظوا على أسلوب معيشتهم البدوية القديمة.
وذكر تاريخ بني إسرائيل في تلك الحقبة، أن منازعات داخلية كبيرة نشبت بين شاؤول وداود وبين أسرتيهما، أما داود فقد حالف الفلسطينيين وعقد معهم حلفاً، والآخر أراد أن يحصل على استقلاله بالقوة، الأمر الذي صعب عليه ومات مقهوراً.
ويدعي بعض اليهود أن المسجد الأقصى، قد أقيم على أنقاض الهيكل الذي بناه سليمان بعدما أصبح ملكاً علي بني إسرائيل بعد موت أبيه داوود. غير أن هذا ليس صحيحاً، فحتى هذه اللحظة لم يكتشف أي أثر يدل على بناء الهيكل في هذا المكان، أو في منطقة القدس، وحتى هذه اللحظة لم يستطع أحد أن يحدد مكان مدينة داود. فكيف لليهود أن يتحدثوا عن الهيكل؟.
ونذكر هنا أن مدينة القدس تعرضت لغزوات عديدة، كان أولها من قبل الكلدانيين، وقام “نبوخد نصر” بسبي بعض اليهود المقيمين في أطراف المدن الكنعانية لرفضهم دفع الجزية، فيما عرف بالسبي البابلي الأول. وتلاه غزو آخر عرف بالسبي البابلي الثاني، بسبب انضمام بعض اليهود الرعاع إلى جملة المدن الثائرة على بابل، عام 586 ق.م، واقتاد عدداً منهم أسرى إلى بابل. وتلا ذلك الغزو الفارسي للمدينة سنة 539-538ق.م.
ومن ثم تعرضت المدينة للغزو اليوناني، عندما دخل الإسكندر المقدوني الكبير فلسطين سنة 332 ق.م. وبعد ذلك دخلت الجيوش الرومانية القدس سنة 63 ق.م على يد “بوبي بومبيوس” الذي عمل على تدميرها بعد أن تم دمج الأطراف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط في الإمبراطورية الرومانية. وفي هذه الأثناء عهد “بومبي” سورية إلى أحد الموظفين الرومان البارزين وهو “غابينيوس” (57- 55 ق.م)، الذي عمل على فرض ضرائب باهظة على السكان وتقسيم الدولة إلى خمسة أقاليم، يحكم كل منهما مجلس، وأعاد “بوبي بومبيوس” بناء عدد من المدن اليونانية- السورية التي كان المكابيون قد هدموها، مثل: السامرة، وبيسان، وغزة.
في تلك الفترة، شهدت روما حروباً أهلية، ودب الاضطراب في الدولة الرومانية كلها، مما أدّى إلى انتقال هذه الاضطرابات إلى سورية، وأثناء تقسيم العالم الروماني من قبل الحكومة الثلاثية، وأصبحت سورية ومصر والشرق تحت سلطة “أنطونيو” المعروف بعلاقاته مع “كليوباترا” ملكة مصر.
وفي هذه الأثناء أهمل “أنطونيو”الأسرة الكابية، ووضع مكانها الأسرة الهيرودية، وقد برز من هذه الأسرة “هيرودوس الكبير” عام 37 ق.م، الذي أخذ “أورشليم” ووطد سلطته عليها، وبقى على الحكم ما يقارب الثلاثة وثلاثين عاماً بدعم من روما. وكان “لهيرودس الكبير” فضل إعادة تعمير مدينة القدس، وبناء بعض المرافق العامة. وتوفي هيرودس في عام 4 ق.م.
ظهور المسيحية
أدّى اعتناق “الإمبراطور قسطنطين” المسيحية في القرن الرابع الميلادي، إلى تغيير جذري في تاريخ المدينة، حيث أصدر قسطنطين سنة 313م، مرسوماً يقضي بمنح المسيحيين حرية العبادة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وأصبحت أورشليم مقدسة عند المسيحيين إذ حج إليها السيد المسيح منذ صباه.
اهتم قسطنطين بالمسيحيين والديانة الجديدة، وكذلك استطاعت أمه الإمبراطورة “هيلانة” هي والمطران “مكاريوس”، أن تقيم من الأمكنة التي ارتادها المسيح، وأن تقيم كنيسة القيامة وأصبح لأورشليم أهمية منذ ذلك التاريخ. فسعى إليها الحجيج من كل مكان، وكثرت الكنائس ولا سيما في عهد الإمبراطورة “ايودك” 441- 460م. وأصبحت الإمبراطورية الرومانية تدين بالمسيحية، إلا أن تغييراً حدث بعد مرور حوالي ربع قرن من الزمن على وفاة قسطنطين، وهو تولي الإمبراطور “جوليان” العرش الروماني سنة 361م، وقد سمي بالمرتد؛ لانحرافه عن المسيحية ورجوعه إلى الوثنية، ولكنه قتل في حملته على بلاد الفرس في حزيران 363م.
وبموت جوليان تم تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: غربي، وشرقي. وكانت فلسطين ضمن القسم الشرقي البيزنطي. وشهدت فلسطين بهذا التقسيم فترة استقرار دامت أكثر من مائتي عام، الأمر الذي ساعد على نمو وازدهار البلاد اقتصادياً وتجارياً وعمرانياً؛ مما ساعد في ذلك مواسم الحج إلى الأماكن المقدسة.
ولم تستمر هذه الفترة من الاستقرار؛ ففي سنة 611م دخل ملك الفرس “كسرى الثاني” (أبرويز) في الفترة (590- 638م) على سوريا، واستمر في تقدمه، حتى احتل القدس في 614م، فدمر الكنائس والأماكن المقدسة، ولا سيما كنيسة “القبر المقدس”، وانضم من تبقى من اليهود إلى الفرس في حملتهم هذه؛ رغبة منهم في الانتقام من المسيحيين، وهكذا فقد البيزنطيون سيطرتهم على البلاد.
ولم يدم ذلك طويلاً، فقد أعاد الإمبراطور “هرقل” فتح فلسطين سنة 628م، وطرد الفرس ولاحقهم حتى بلادهم، واسترجع الصليب المقدس.
ثم جاء الفتح العربي الإسلامي ليفتح المدينة، وكان ذلك في معركة اليرموك سنة 636م، وتبعتها الفتوحات الإسلامية.
الفتح الإسلامي
الفتح العمري:
شكلت فلسطين والقدس خط الدفاع الأول عن الإسلام وبلاد المسلمين، واستمدت المدينة أهميتها الدينية عند المسلمين، ليس لأنها ذات أصول عربية كنعانية فحسب، بل لأنها مهد الرسالات أيضا، فمنها عرج رسول الله “محمد” صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع وتكلم إلى ربه، وتم فرض الصلوات الخمس على المسلمين، ثم العودة من السماوات العلى إلى بيت المقدس ومنها إلى مكة المكرمة.
فلم يختر الله سبحانه وتعالى بيت المقدس مكاناً لإسراء نبيه، عبثاً، ولكنها مشيئة إلهية سماوية رسمت منذ ذلك التاريخ وإلى الأبد، علاقة ملايين المسلمين بهذه البقعة المقدسة من الأرض، وهي بالنسبة لهم من أقدس المقدسات، وهي المكان الذي يحجون إليه، فهو قبلتهم الأولى وثالث الحرمين الشريفين بعد الكعبة المشرفة ومسجد النبي في المدينة المنورة.
لقد بدأ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد الجهر بالدعوة الإسلامية وانتشارها، بتوجيه أنظار المسلمين وقلوبهم إلى مدينة القدس، مدركا أهميتها الدينية والروحانية لدى المسلمين، فبعث في جمادى الأول سنة ثمان للهجرة أول قوة إسلامية إلى بلاد الشام، وجعل على رأس هذه القوة، التي لا تزيد على ثلاثة آلاف مقاتل|، زيد بن حارثة.
سارت القوة إلى بلاد الشام للاشتباك بجيوش الروم، حيث علم المسلمون أن “هرقل” قد حشد في مؤاب بأرض كنعان، مائة ألف من الروم، وانضم إليهم مثل هذا العدد من القبائل العربية المجاورة، فدب التوتر في نفوس المسلمين، وفكروا في أن يطلبوا النجدة من رسول الله “محمد”، إلا أنهم آثروا الاشتباك مع جيوش الروم؛ طلباً للنصر أو الشهادة في سبيل الله لدخول الجنة.
زحف المسلمون إلى الشمال، حتى قابلتهم جموع الروم في مؤتة بالقرب من مدينة الكرك في الأردن، ودارت رحى المعركة غير المتكافئة، وما لبث أن انسحب جيش المسلمين لإنقاذ القوة من فناء أكيد، وكانت هذه الحادثة بمثابة الاختبار الأول للمسلمين وإرادتهم الشجاعة في تحرير بيت المقدس، واستعدادهم التام للتضحية والفداء من أجل القدس.
أمر الرسول الكريم بتجهيز جيش يقوده “أسامة بن زيد”؛ للانتقام لشهداء مؤتة، وانتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وجيش أسامة يتأهب للسير شمالاً، فأمر الخليفة أبو بكر الصديق أن يواصل جيش أسامه سيره ويحقق المهمة التي كلفه بها رسول الله، واشتبك جيش أسامه مع القبائل العربية التي ساندت جيش الروم ضد قوة المسلمين، ولقنها درساً، وعاد إلى المدينة المنورة.
وبعد أن انتهى الخليفة “أبو بكر الصديق” من حروب الردة، في أعقاب وفاة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم- وبعد أن تم تدعيم أركان المسلمين، أعدّ جيشاً لغزو بلاد الشام وتحرير بيت المقدس، وقدر عدد الجيش بأربعة وعشرين ألفاً من جنود المسلمين الأشداء، وزحف جيش المسلمين شمالاً وحارب الروم في معارك جانبية إلى أن وصل مشارف دمشق في “حوران”.
أما الروم فقد تجمعوا استعداداً للمعركة الحاسمة في وادي اليرموك، الفاصل بين سورية والأردن، بعدد يقدر بعشرة أضعاف جيش المسلمين، ومن ناحية أخرى قدم خالد بن الوليد على رأس جيش مجهز، وتوحد الجيش بقيادة “خالد بن الوليد”، ودارت المعركة الفاصلة وكان النصر حليف المسلمين في اليرموك، وبعد ذلك اتجه جيش المسلمين إلى دمشق، حيث حاصرها، وتم فتحها، وهزم الروم شر هزيمة.
وبعد أن فرغوا من بلاد الشام، وجهوا جزءاً من قواتهم إلى فلسطين، وفتحوا مناطق عديدة منها وحاصروا إيلياء (القدس) زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، واستمات الروم في الدفاع عن بيت المقدس، بيد أن الدين الجديد وما يزرعه في نفوس قواته، قد انتصر على عناد الروم، ودب الضعف في نفوسهم.
ولما اشتدّ الحصار على بيت المقدس سنة 636م، ظهر البطريرك “صفرونيوس” من فوق أسوار المدينة وقال لهم: “إنا نريد أن نسلم، لكن بشرط أن يكون ذلك لأميركم، فقدموا له أمير الجيش فقال: لا، إنما نريد الأمير الأكبر، أمير المؤمنين، فكتب أمير الجيش إلى عمر بن الخطاب.
فخرج عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس، ولما أطلّ على مشارفها وجد المسلمين في استقباله خارج بابها المسمى بباب دمشق، وعلى رأسهم البطريرك “صفرونيوس”. وكان عمر على راحلة واحدة ومعه غلامه، فظهر لهم وهو آخذ بمقود الراحلة وغلامه فوقها، وكان عمر قد اشترط على غلامه أن يسير كل منهما نفس المسافة، يركب واحد، والآخر يسير على الأقدام بالتساوي، فعندما وصلا كان دور الغلام وعمر بن الخطاب يأخذ بمقود الراحلة. فبينما رأوه كذلك خروا له ساجدين، فأشاح الغلام عليهم بعصاه من فوق راحلته وصاح فيهم: “ويحكم إرفعوا روؤسكم، لا ينبغي السجود إلا لله، فلما رفعوا رؤوسهم انتحى البطريرك “صفرونيوس” ناحية وبكى، فتأثر عمر وأقبل عليه يواسيه قائلاً: “لا تحزن هون عليك، فالدنيا دواليك يوم لك ويوم عليك”، فقال صفرونيوس: “أظننتني لضياع الملك بكيت؟ والله ما لهذا بكيت، إنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية ترق ولا تنقطع، فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين ثم تنقرض مع السنين”.
وتسلم ابن الخطاب مفاتيح القدس من البطريرك “صفرونيوس”، وخطب في تلك الجموع قائلا: “يا أهل إيلياء لكم مالنا وعليكم ما علينا”. ثم دعا البطريرك لتفقد كنيسة القيامة، فلبّى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فتلفت إلى البطريرك وقال له أين أصلي؟ فقال: مكانك صل، فقال: “ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة، فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجدا”. وابتعد عنها رمية حجر، وفرش عباءته وصلى، وجاء المسلمون من بعده، وبنوا على ذلك المكان مسجداً، وهو قائم إلى يومنا هذا.
نص العهد الذي أعطاه الخليفة عمر للقدس “العهدة العمرية”:
بسم الله الرحمن الرحيم: “هذا ما أعطى عبد الله “عمر” أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صلبهم، ولا من شئ من أموالهم ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله، حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله، لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية”.
شهد على ذلك كتب وحضر سنة 15 هـ عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان.
الحروب الصليبية
استطاع الصليبيون في نهاية القرن الحادي عشر، الإستفادة من الانقسامات التي تعرض لها العالم الإسلامي؛ نتيجة الفتنة التي دبت بين الشيعة، والسنة؛ وبين العرب، والترك في تلك الفترة، حتى أن الوزير الفاطمي “الأفضل” أرسل إلى الصليبيين رسالة عام 1098م، يعرض فيها محالفتهم ضد الأتراك السلاجقة.
عقد الصليبيون العزم على أن يسيروا إلى بيت المقدس، وذلك بعد الإستيلاء على انطاكية. وتقدمت القوات الصليبية في 7 يونيو 1099م، وحوصرت المدينة المقدسة من جميع الاتجاهات.
وقد كانت المدينة مزودة بكميات كبيرة من المؤن والماء والأسلحة، التي فاقت أسلحة الصليبيين، كما دعمت الأبراج بالقطن والدريس لتصمد أمام قذائف منجنيقات العدو، وصمدت القوات الإسلامية في المدينة وتعرض الصليبيون إلى هجمات المسلمين، ونفذت مؤنهم وعانوا كثيراً من حرارة الشمس، وفشل الصليبيون في هجومهم الأول على المدينة.
وحينما وصلت إليهم إمدادات جديدة وعتاد وعدة، عاودوا الهجوم. وبلغ عدد القوات الصليبية المحاصرة للمدينة 12 ألفاً من الراجلة، و1300 من الفرسان، بالإضافة إلى معاونة حجاج مسيحيين لهم، وفي ليلة 14 يوليو 1099م، استطاع الصليبيون دخول المدينة خلال الأسوار عبر أبراج صنعت خصيصاً لذلك.
فقد دمر الصليبيون ما شاء لهم أن يدمروا، ونهبوا الكثير، كما نهبوا بعض المعادن النفيسة التي كانت تكسوا المقدسات، ولا سيما قبة الصخرة، وانطلق الصليبيون في شوارع المدينة، والى المنازل والمساجد، يذبحون كل من صادفهم من الرجال والنساء والأطفال، وهكذا استطاع المسيحيون الاستيلاء على بيت المقدس.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت قضية تحرير القدس التي ترمز إلى تحرير فلسطين، هي القضية الأولى الأساسية على المستويين السياسي والديني لدى العرب والمسلمين.
في غضون ذلك وصلت قوة مصرية إلى بيت المقدس، وطلبت من الصليبيين الرحيل من البلاد، وتقدم “الوزير الأفضل” وزير مصر نحو فلسطين، فوصل عسقلان في 4 أغسطس، وخرج “جودفري” بجيشه من بيت المقدس لمواجهة جيوش المصريين في 9 أغسطس 1099م، واحتشد الجيش الصليبي في سهل المجدل (شمالي عسقلان)، حيث يعسكر الوزير الأفضل، وفوجئ الأفضل بتلك الجموع ، فهرب إلى مصر بحراً، وبذلك أصبح احتلال الصليبيين لبيت المقدس مؤكداً، ولم يلبث أن استولى الصليبيون على الجليل، وطبريا، وحيفا، وقيسارية، وغيرها.
وعلى إثر ذلك أصبح “جودفري دي بويون” هو الحاكم الذي منح لقب المدافع عن كنيسة القيامة، وفي 11 نوفمبر عام 1100م، أصبح “بلدوين الأول” على رأس مملكة الصليبيين في بيت المقدس، وقد إستمرت هذه المملكة 87 سنة ولم يسمح للمسلمين ولا لغيرهم بالإقامة داخل المدينة.
لقد شعر الصليبيون في تلك الفترة بأنه يتوجب عليهم التخلص من الثقافة العربية في المنطقة، وجعل تلك البقعة من الوطن العربي لاتينية، وكذلك القضاء على الأرثوذكسية التي كانت منتشرة فيها، وقيل أيضاً بأن الهدف الرئيسي لغزو الصليبيين كان تجارياً، حيث ساد نظام الإقطاع في الإدارة، فكانت الأرض كلها للفرسان.
المماليك
في وسط الغمام الذي مر بالأمة الإسلامية، ظهر “عماد الدين زنكي”، فوحد قوى المسلمين في العراق والشام، ولكنه لم يعمر طويلاً، إذ قتل على يد أحد صبيانه عام 1146م. وظهر بعد ذلك ولده البكر “نور الدين محمود” الذي حمل رسالة أبيه في حرصه على مصالح المسلمين، وعمل على تنظيم صفوف المسلمين، واستولى على دمشق؛ الأمر الذي ساعد على توحيد البلاد، ثم امتد نفوذ نور الدين إلى مصر، وولى صلاح الدين الوزارة الفاطمية وهو في الحادية والثلاثين من عمره.
كان لنجاح “نور الدين” في ضم مصر (حاضنة الدولة الإسلامية) أثره في قلق الصليبيين، فأصبحت قواتهم في بيت المقدس محاطة من الشمال الشرقي والجنوب الغربي. حتى أن “عموري الأول” ملك بيت المقدس أرسل سفارة إلى أوروبا يطلب النجدة، وكذلك إلى الدولة البيزنطية.
وعندما قامت الدولة الأيوبية في مصر على أنقاض الضعف والتحلل الذي أصاب الخلافة الفاطمية، دبت الحياة والقوة في الجهة الغربية من جبهات المعركة، وكان لالتحام الجبهات وتوحدها شرطاً ضرورياً، حتى يتم محاصرة الكيان الصليبي الغريب، الذي زرع في الجسد العربي الواحد، وكانت هذه هي المهمة التي قام بها وقاد معاركها البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي.
وفي العام التالي لقيام الدولة الأيوبية، بدأ صلاح الدين الزحف على جنوب فلسطين، وكان حصن “الكرك” الصليبي بجنوب فلسطين، يحكمه “رينالد” وهو من أقوى وأشرس أمراء الصليبيين، وتعرض هذا الحصن المنيع لهجمات صلاح الدين أربع مرات، وأثناء الاستيلاء على القلعة في المعركة، كان الأسطول المصري قد حقق انتصاراً بحرياً ضد الأسطول الصليبي في البحر الأحمر سنة 1182م، الذي أجهض محاولة الصليبيين لتدمير الأماكن الإسلامية المقدسة في أرض الحجاز.
وعندما نقض الصليبيون المسيطرون على حصن الكرك الهدنة المعقودة بينهم وبين صلاح الدين، وأغاروا على القوافل العربية، وجاهروا بالاستعداد للزحف على مقدسات المسلمين في الحجاز، كانت تلك اللحظات بمثابة الفرصة السانحة والمنظورة لاجتثاث الصليبيين من القدس، فشرع صلاح الدين في السير نحو المعركة الفاصلة والهامة عبر التاريخ، وهي معركة “حطين” معركة تحرير القدس. وكانت القوة الصليبية قد لبثت حيناً من الزمن، وهي تحجم عن لقاء صلاح الدين في معركة فاصلة، ولما أيقنوا بأن صلاح الدين لن يترك القدس في أيديهم، بدأوا في توحيد صفوفهم وتجميع فرقتهم.
قال “ريموند ” أمير طرابلس: “أن الخروج خارج القدس للقاء صلاح الدين خطأ كبير، بل يجب التمركز داخل الأسوار للدفاع عن المدينة، ولكن رأى الأغلبية منهم أن الهجوم خير وسيلة للدفاع “. وخرجوا إلى طبريا.
وعندما وصل جيش الصليبيين طبريا وعددهم 63 ألفاً من الفرسان، وقفوا أمام جيش صلاح الدين، فرتب الصليبيون جيشهم في ثلاثة خطوط متراصة خلف بعضها، وفي مقدمتها أمير طرابلس، ومن خلفه جمهور عظيم يحيط بالصليب الخشبي؛ لكي يثير حماسهم، ومن خلف هذا الصف يقف ملك أورشليم ومعه فرسان المعبد وجمهور من المتطوعين الذين جاءوا من أوروبا.
وفي المقابل كان معسكر “صلاح الدين” الذي شهد تنقلات القائد الذي لم يغف له جفن، وقضى ليله ونهاره يطمئن على المؤن والتسليح، وكذلك على جدول الماء الذي أصبح في حوزة العرب، والذي حرم الصليبيون من الاستفادة منه، كما بات يذكر الجنود بالمدينة الأسيرة ويثير فيهم الحماس.
وفي يوم 1 تموز سنة 1187م في ليلة الجمعة، التحم الجيشان ودارت رحى المعركة، وكان لجيش صلاح الدين قوة و إرادة وعناد واستبسال في القتال لم يعهد من قبل، وبالمقابل أصاب العطش جيوش الصليبيين، كما أصابتهم حرارة شمس تموز، وحرارة النيران التي أشعلها العرب في الغابات.
وفي يوم السبت 3/تموز، ثالث أيام المعركة، بدا جلياً أن الحرب تحسم لصالح جيش المسلمين، حيث انسحبت جموع الصليبيين إلى جبل “حطين” لتتخذ منه ظهرا في الدفاع والهجوم، ولكن جيش المسلمين كان في أثرهم، حتى نزل” صلاح الدين” من فوق حصانه ساجداً لله مقبلاً للأرض “شكراً لله على هذا النصر”، وكان ذلك إيذاناً بحسم المعركة لصالح المسلمين، وقتل من الصليبيين 30 ألفاً، وأسر ما يقارب الثلاثين ألفاً أيضاً من أصل 63 ألفاً.
وفي اليوم التالي: الأحد 4 تموز استولى العرب على طبريا، ومن ثم فتحوا عكا، وجابوا كافة المدن والقرى الفلسطينية، وصولاً لأسوار المدينة المقدسة يوم الأحد 20/أيلول 1187م، وأحاط جيش صلاح الدين بالجانب الغربي من أسوارها، وعسكر في نفس المكان الذي فتحها منه الصليبيون عام 1099م، ومكث عدة أيام في دراسة أحوال المدينة من النواحي العسكرية، تخللتها بعض المناوشات المتبادلة بين الطرفين، فقرر الانتقال إلى جانب المدينة الشمالي.
وفي يوم الجمعة 25 أيلول بعد خمسة أيام من بدء الحصار، بعث “صلاح الدين” إلى الصليبين رسولاً يقول لهم على لسانه: “إنني مثلكم أقدس هذه المدينة، وأعرف أنها بيت الله، وأنا لم آت إلى هنا كي أدنس قداستها بسفك الدماء، فإذا سلمتموها لي فإنني أخصص لكم قسماً من خزائني أمنحكم من الأرض بمقدار ما تستطيعون القيام به من أعمال”. وانتظر الرد، ولكن الصليبيين كانوا قد جمعوا ستين ألفاً من الفرسان وعقدوا اجتماع مشورتهم. وجاء ردهم إلى “صلاح الدين” بالتالي: “إننا لا نقدر أن نسلمك مدينة قد مات فيها إلهنا بالجسد، وبأكثر من ذلك نحن لا نقدر أن نبيعها”.
بعد هذا الرد، لم يكن أمام صلاح الدين سوى القتال، وأمر بنصب المنجنيقات على المرتفعات وأعد العدة للحرب.
واختار الصليبيون لقيادتهم في هذه المعركة الفاصلة القائــد “باليان ده ايبالين”، أحد القلائل الذين تمكنوا من الهرب في معركة حطين، وأخذوا بجمع سبائك الذهب والفضة، ونزع زينة الكنائس وضرب عملة لتعينهم على أمور القتال.
وبدأت المناوشات بين الجانبين، فأوشك المسلمون على اقتحام أسوار المدينة، واكتسحوا الخنادق والتحصينات، وعم الفزع بين السكان اللاتين؛ فألقوا الأسلحة، وتم التضرع والبكاء، وعقد الصليبيون مجلس شورى، وقرروا طلب الأمان من صلاح الدين نظير التسليم، فرد صلاح الدين ذلك العرض، وقال لهم: “كما أخذتم هذه المدينة بالسيف، فلا بد أن أستردها بالسيف، وسوف أبيد الرجال وأستولي على الأموال”. ولكنهم ألحوا ثانية في طلب الأمان، وإزاء رفض صلاح الدين لذلك، كشفوا عن مخطط كانوا قد اتفقوا عليه، فقال “باليان” المبعوث الصليبي للسلطان صلاح الدين: “إننا إذ يئسنا من النجاة من سيوف جندك، فإننا سنهدم المعبد والقصر المملوكي، وننقض حجارتها حتى الأساسات وسنحرق الأمتعة والكنوز والأموال في خزائن المدينة، كما سنهدم جامع عمر وقبة الصخرة، اللذين هما موضوع ديانتك، وسنقتل ما لدينا من أسرى في سجون المدينة، منذ سنوات وعددهم خمسة آلاف رجل، وسنذبح نسائنا وأولادنا بأيدينا حتى لا يقعوا في أسركم”.
وبعد أن تصبح المدينة رديما ومدفنا واسعاً، سنخرج للقتال، قتال اليأس من الحياة، ونحن ستون ألف مقاتل لن يفنى أحد منا حتى يقتل واحداً من جنودك … فامنحنا الأمان نسلمك المدينة دون أن يمسها أحد من الطرفين بسوء ؟!
شهدت خيمة “صلاح الدين” مجالسا للمشورة ضمت الأمراء والقادة. ومنعاً لسفك الدماء التي تحرك المزيد من الأحقاد، تم الاتفاق على أن تسلم المدينة مقابل أن يرحل منها كل اللاتين غير العرب الذين استوطنوها بعد الغزو الصليبي، وأن يكون رحيلهم في غضون أربعة أيام، وان يكون لهم جميع ما يملكون من نفائس وأموال، وذلك في نظير فدية قدرها عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينار واحد لكل طفل.
وفي يوم الجمعة 3/ تشرين أول سنة 1187م، الذي يوافق ذكرى الإسراء والمعراج، تم التوقيع على نسختي المعاهدة بالتسليم، ودخل العرب المسلمون المدينة المقدسة.
فانشغل اللاتين والصليبيون بجمع المال والمتاع استعداداً للرحيل، وفي يوم الاثنين 5/ تشرين أول، أغلقت جميع أبواب المدينة، وأقيم لصلاح الدين عرش عند هذا الباب كي تمر من بين يديه جموع الخارجين.
وبهذا بدأ حكم صلاح الدين وأحفاده للقدس جيلاً وراء جيل، حتى جاء المماليك المسلمون، وحكموا القدس في 1489م. وفي هذه الفترة انتشر الطاعون في القدس، وبقى أربعة شهور، حتى كان يموت بسببه حوالي مائة شخص يومياً، وقد أتى هذا المرض على القلة القليلة من اليهود التي كانت موجودة في القدس.
وكانت هذه هي نهاية مرحلة عظيمة من المتاعب والأحداث الهامة في القدس إلى ما بعد انتهاء الحكم العثماني.
الحكم العثماني 1516-1831م
بعد الانتصار الحاسم الذي حققه السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق “شمال سوريا”، في 1516م، دخل العثمانيون القدس بتاريخ 28 ديسمبر 1516م (الرابع من ذي الحجة 922هـ). وبعد هذا التاريخ بيومين، قام السلطان بزيارة خاصة للمدينة المقدسة، حيث خرج العلماء والشيوخ لملاقاة “سليم شاه”، وسلموه مفاتيح المسجد وقبة الصخرة. ومن ثم قدم السلطان الهدايا لأعيان البلد جميعاً، وأعفاهم من الضرائب الباهظة، وثبتهم في وظائفهم.
وفي فترة حكم سليمان (1520- 1566م)، نعمت القدس بأزهى أيامها بدون أسوار، كان سلاطين بني عثمان يكنون احتراماً خاصاً للقدس، بوصفها ثالث المدن المقدسة في الإسلام، وفي هذه الفترة بدأ التعمير بترميم شامل لقبة الصخرة بإيعاز من السلطان سليمان، وتم ترميم وبناء سور المدينة العظيم الموجود حتى الآن، وبقيت المدينة بدون أسوار لمدة تتجاوز الثلاثمائة عام منذ دمر الملك “عيسى الأيوبي” أسوارها سنة 1219م.
وبلغ طول السور حوالي ثلاثة كيلومترات، ومعدل ارتفاعه 12متراً، ويبلغ عدد أبراج السور في الوقت الحاضر 34 برجاً، وله سبعة أبواب مفتوحة: ستة منها تحمل نقوشا تسجل تاريخ بنائها، وأربعة أخرى مغلقة.
واستمرّ بناء السور خمس سنوات (1536- 1540م)، واقتضى نفقات طائلة، وكان الهدف من بناء وترميم السور، يتمثل في حماية المدينة من الغزو الأجنبي، ومن غارات الغربان.
كما أولى السلطان المشكلة الدائمة المتمثلة في ضرورة توفير المياه عناية كبرى؛ فخصصت مبالغ كبيرة من المال لبناء المنشآت المائية وإصلاحها وصيانتها، كالقنوات والبرك والأسيلة والحمامات.
وفي أواسط القرن السادس عشر، أقيمت في القدس مؤسسة مهمة، هي تكية أو عمارة (رباط ومطبخ) خاصكي سلطان، وقد أنشأتها (خاصكي سلطان) زوجة سليمان الروسية الأصل سنة 1551م، وسرعان ما أصبحت من أهم المؤسسات الخيرية في فلسطين، وكانت التكية مجمعاً بنائياً ضخماً، يضم مسجداً وخاناً ورباطاً ومدرسة ومطبخاً، وكان المطبخ يقدم يومياً مئات الوجبات إلى ضيوف الرباط والصوفية والطلبة، والفقراء بشكل عام.
ويذكر أن مدينة القدس ورثت من زمن الأيوبيين والمماليك عدداً كبيراً من الأوقاف الإسلامية والمرافق العامة، التي لقيت الرعاية في الفترة العثمانية وازداد عددها، وكان لهذا الوقف الإسلامي دور كبير في حياة القدس الاقتصادية، فقد تم توظيف مئات المواطنين، وزود مئات المنتفعين بدخل ثابت، كما أنه عمل على إنعاش كافة فروع الاقتصاد.
منذ بداية الفتح العثماني، كانت القدس تتبع ولاية دمشق، وهي إحدى ثلاث ولايات تألفت منها بلاد الشام في ذلك الوقت، وقسمت كل ولاية إلى عدد من السناجق، وكان للقدس سنجقها الخاص الذي ضم الخليل والقرى المجاورة. وكان على رأس الإدارة حاكم اللواء (سنجق بك أو أمير اللواء)، وهذا المنصب مقصورعلى الأتراك العثمانيين تقريباً، وكان الحاكم رجلاً عسكرياً تمثلت واجباته الرئيسية في قيادة القوات المسلحة في السنجق أثناء الحرب، والمحافظة على النظام العام، والإشراف على الإقطاعيات العسكرية، وجباية الضرائب.
كان للحاكم نائب يدعى “الكيخيا”، وكاتب يدعى “يازجي”، ويتبعه عدد من التراجمة، وكان الفرسان الإقطاعيون “السباهية” تحت إمرة الميرالاي. أما قوات الشرطة فكان يرأسها “السوباشي”، وكان للقلعة قائد خاص يدعى “دزدار”، يرتبط مباشرة بالحكومة المركزية، وتألفت حاميتها من السباهية وغيرهم من الجنود، إلا أن قوامها الرئيس هم الانكشارية الذين كان يرأسهم “أغا”.
أما الحكم الإداري “المدني”، فكان على رأسه القاضي، وعادة ما يكون تركيا يعين من إسطنبول لمدة سنة واحدة، وكان منصب القاضي مقصوراً على الأحناف (فالمذهب الحنفي كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية)، وكان قاضي القدس من القضاة الكبار في الدولة.
وإلى جانب القاضي، كان هناك ثلاث شخصيات دينية واجتماعية بارزة في القدس، هي: المفتي، ونقيب الأشراف، وشيخ الحرم، وكان هؤلاء الثلاثة من المقادسة الذين يعينهم السلطان.
وفيما يتعلق بالحياة الاقتصادية في بداية فترة حكم العثمانيين: فتشير سجلات المحكمة الشرعية إلى وجود خمسة فروع رئيسية من الصناع في مدينة القدس وهي:
1. الصناعات الغذائية، وتتمثل في (استخراج الزيوت وطحن الحبوب وعصر الفواكه).
2. صناعات النسيج والصباغة.
3. الصناعات الجلدية.
4. صناعة الصابون.
5. الصناعات المعدنية (الحديدية، والنحاسية).وتخللت هذه الفترة حركة تجارية نشطة، تمثلت في تصدير الصابون إلى مصر عبر ميناء غزة، والحبوب إلى مصر ويوغسلافيا (دوبرو فنيك)، أما المستوردات الرئيسية فكانت الأرز والمنسوجات من مصر، والملابس والقهوة من دمشق، وكذلك بعض المنسوجات من إسطنبول والصين والحجاز والعراق.
وكانت النشاطات الاقتصادية خاضعة لنظام ضرائبي وشملت:
– الأراضي الزراعية.
– المواشي.
– ضرائب البيع.
– الصناعات.
إضافة إلى الجزية التي كانت تجبى من المسيحيين واليهود (أهل الذمة)، وكانت تفرض على البالغين الذكور الأصحاء منهم، وكانت أدنى فئات الجزية بالإضافة إلى رسوم الحجاج، ورسوم الخفارة، ورسوم زيارة الأماكن المقدسة، ورسوم الموانئ.
وفي الثلث الأخير من القرن السادس عشر، بدأت تظهر تصدعات خطيرة في كيان الدولة العثمانية، وبدأت الدولة في تراجع دام أكثر من قرنين، منذ أوائل القرن السابع عشر.
وتعمق هذا التراجع في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حيث أخذ نظام الإقطاع “السباهية” (أمراء الإقطاع) بالتدهور تدريجياً، ومع قرب انتهاء حروب التوسع وقلة الغنائم، أخذ أمراء الإقطاع بالتوجه إلى الأرض والمزارعين للتعويض عن الغنائم التي خسروها، وتم استغلال الفلاحين استغلالاً جائراً، مما أدى إلى هبوط حاد في الإنتاج الزراعي، وفتح باب أزمة الإمبراطورية على مصراعيه، بالإضافة إلى أسباب أخرى، مثل: اكتشاف الطريق البحري إلى الهند، وتحويل الطرق التجارية عن آسيا، والازدياد الكبير للفضة في أسواق البحر الأبيض المتوسط مع اكتشاف أمريكا، وكذلك ثورات الفلاحين في تركيا والولايات الأخرى.
وكان لهزيمة العثمانيين في معركة “ليبانتو” البحرية سنة1571م، أمام أعضاء الحلف المقدس بمثابة الإنذار الأول، وفي السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر، وبداية السابع عشر، كانت الدولة في حالة حرب مع كل من النمسا وبلاد فارس، وفي الوقت نفسه، كانت هناك ثورة الفلاحين في الأناضول (1598- 1605م).
وحفلت السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر بالانتكاسات المتلاحقة؛ لما سببته الحروب مع النمسا من خسائر فادحة، وهزيمة الجيش العثماني أمام أسوار فينيا (1683م). وفي العقد الأخير من القرن اشتركت روسيا مع النمسا في حربها ضد العثمانيين، وبعد الهزائم العسكرية عقد “صلح كارلوفيتس” في سنة 1699م، وأسفرت عن خسائر كبيرة في الأرض سواء في البلقان أو جنوبي روسيا، واستغلت فرنسا صعوبات الدولة لفرض نسخة جديدة من الامتيازات الأجنبية عليها في سنة 1673م.
وكان لهذه التطورات آثار سلبية في القدس، وصاحب ذلك تدهور في الأمن العام، وخصوصا على الطريق المؤدية للمدينة.
وفي غضون ذلك صعد البدو هجماتهم على قوافل الحجاج، وفرضوا عليهم الإتاوات، حتى هاجمهم حاكم سنجق القدس “خذا وردي” والحق بهم هزيمة. ومن أجل حماية الأمن العام والمحافظة عليه، أنشئت عدة قلاع، وزودت بالرجال والأسلحة. وفي سنة 1630م، بنى السلطان مراد الرابع (1622- 1639م)، قلعة كبيرة عند برك سليمان لحماية الينابيع والبرك التي تزود القدس بالماء من قطاع الطرق، وما يزال مبنى القلعة إلى الآن.
بيد أن هذه الإجراءات لم تنجح، ويرجع السبب في ذلك إلى تورط الحكومة العثمانية في الحروب، فلم تتمكن من تخصيص الأموال والقوات الكافية لذلك؛ مما أدى إلى تخوف أهل القدس من عدم الاستقرار، ومن المطامع الأوربية في المدينة، وانعكس هذا القلق في عريضة وجهت إلى السلطان “مصطفى الأول” سنة 1621م، على غرار فرمان سلطاني صدر في تلك السنة بتعيين “سيودا رامون” قنصلاً فرنسياً مقيماً في القدس.
وعندما تردت العلاقات بين الدولة وفرنسا إبان حكم “مراد الرابع”، الذي طرد اليسوعيين من إسطنبول (بتحريض من السفيرين البريطاني والهولندي عام 1628م)، أصـدر “مراد الرابع” ثلاث فرمانات سنة 1634م، منح بموجبها الروم حق التقدم على اللاتين في الاحتفالات الدينية في القبر المقدس، وألغيت هذه الفرمانات الثلاثة إثر تدخل “لويس الثالث عشر”، وفي سنة 1673م، نجحت فرنسا في تجديد الامتيازات الأجنبية، وتأكيد دورها “كحامية للكاثوليك”. ومن ناحية أخرى تدخلت النمسا وحصلت على امتيازات خاصة للآتين سنة 1642م، كما أرغمت بولندا الحكومة العثمانية على إعادة الفرنسيين (الفرنسيسكان) إلى القبر المقدس، في المعاهدة التي عقدتها مع الباب العالي سنة 1676م.
كما وحصلت النمسا بموجب(اتفاقية كارلوفتس)سنة 1699م، على حق تمثيل المصالح المسيحية، فيما يتعلق بالأماكن المقدسة في القدس. وقد لاقى العثمانيون صعوبات جمة في محاولتهم حل المطالب المتناقضة حول التقدم والأسبقية في الأماكن المقدسة للمسيحيين، وكانت المشاجرات بين الطوائف غالباً ما تشتد وتتحول إلى صدامات دامية، ولا سيما في سنوات 1666، 1669، 1674 من القرن السابع عشر والقرون التالية له.
وبعد معاهدة (كارلوفيتس 1699)، والتي أعقبتها سلسلة من الحروب والأزمات السياسية والهزائم التي منيت بها الحكومة العثمانية طوال القرن الثامن عشر، في حروبها مع روسيا والنمسا والبندقية والفرس، ومرة أخرى مع النمسا وروسيا، وبينما كانت الحروب مستمرة، كان الضعف يدب باستمرار في أجهزة الدولة، ومما ساعد على ذلك، نظام الوراثة في الحكم، والالتفات لقضاء الشهوات، مما أدى إلى انتشار الفساد العام في أركان الدولة، بينما كانت تنفق على الحروب وعلى ترف الحكام من خلال فرض الضرائب وزيادتها باستمرار، مما أدى إلى إفقار الشعب، وقتل حماس العمال والفلاحين، الذي أدى إلى تشتتهم وتنظيمهم للثورات المسلحة.
وفي القدس نفسها بدأ القرن الثامن عشر بثورة، كـان على رأسها نقيـب الأشراف “محمد بن مصطفى الحسيني”، واستمرت سنتين، وكانت بسبب سياسة التسلط والانتهازية في فرض الضرائب الباهظة على السكان والفلاحين؛ فحمل الأهالي السلاح وهاجموا القلعة، وأطلقوا سراح السجناء، وبعد ذلك أرسل الوالي حوالي 2000 من الإنكشارية والجنود إلى القدس، وتمكنوا من احتلال المدينة سنة 1705م، وتم اعتقال “النقيب”، وأرسل إلى إسطنبول ونفذ فيه حكم الإعدام سنة 1707م.
وفي أواخر القرن الثامن عشر و أوائل القرن العشرين، واجهت الدولة العثمانية تهديدين رئيسيين: الأول من مصر، والثاني من البلقان، ففي عام 1798م، غزا نابليون بونابرت مصر، وفي السنة الثانية زحف إلى سوريا، وانتهت حملته بالفشل أمام أسوار عكا. فقد أثارت أنباء نزول الجيش الفرنسي في الإسكندرية الذعر والغضب في القدس، وأدت إلى مهاجمة الأديرة، وأخذ الرهبان كرهائن، بيد أن والي الشام أمر بالتروي وبحماية الأديرة، طالما أنهم يدفعون الجزية، ولا يظهرون علامات الخيانة.
وعندما سمع الوالي أنباء قيام الفرنسيين بإرسال بعض الرسائل إلى سكان القدس، أمر بأن تسلم هذه الرسائل إلى السلطان على الفور، والتف أهالي فلسطين والقدس حول الحكومة العثمانية، فأرسل الشيخ “موسى الخالدي” قاضي عسكر الأناضول منشوراً إلى أهل فلسطين دعاهم فيه إلى القتال ضد نابليون.
وفي سنة 1804م، توفي الجزار والي الشام ووالي القدس بدوره، حيث تلاه سليمان باشا (1804- 1818م)، وتلاه عبد الله باشا (1818- 1831م)، وبعد ذلك تولي القدس عدد من الحكام المحليين.
ومن سنة 1808م إلى1831م (وهي نهاية الفترة الأولى في الحكم العثماني)، عاشت القدس سلسلة من الاضطرابات والثورات.
سكان القدس في العهد العثماني
الأكثرية الساحقة من سكان مدينة القدس، من أهلها المسلمين العرب، وهناك نسبة صغيرة من المسلمين الذين اختاروا الإقامة فيها، بعد أن وفدوا إليها من أقطار إسلامية وعربية عديدة، مثل المغرب ومصر وسوريا والعراق وغيرها من دول أسيا الوسطى.
أما المسيحيون، فلم تعدهم الدولة طائفة واحدة. فقد كانوا منقسمين إلى عدد من الطوائف والقوميات (لاتين، وروم، وأرثوذكس، وأرمن، وأقباط، وأحباش، وصرب، وسريان، وكرج…الخ)، غير معظمهم كانوا من الروم الأرثوذكس العرب، وكانت العلاقات بين الطوائف المسيحية طوال العهد العثماني (وخصوصاً في القرن السابع عشر والقرون التالية) مشحونة بالمنازعات والخصومات.
أما اليهود، فقد تمتعوا بقسط من الحرية الدينية في فترة الحكم العثماني، لم يحظوا بمثله في أي من البلدان الأوربية، ولم تتخذ ضدهم أية إجراءات، من شأنها أن تساعد على التمييز بينهم وبين السكان، وقد نتج عن ذلك قيام علاقات متينة بينهم وبين الجاليات اليهودية الأخرى في الإمبراطورية العثمانية، التي ازداد عددها بشكل ملحوظ بوصول الكثيرين من اليهود بعد إقصاءهم وتشريدهم عن أسبانيا والبرتغال سنة 1492م.
وبعد سماح السلطات العثمانية لهم بالعيش في فلسطين، وبحلول سنة 1522م، أصبحت في القدس جالية يهودية “سفارادية” تزايد نموها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بوصول بضع مئات من اليهود “الحسيديم” من بولونيا سنة 1777م؛ مما ساهم في تأسيس طائفة أشكانازية في المدينة إلى جانب الطائفة “السفارادية”. وفي سنة 1806م أصبح عدد اليهود في القدس 2000 نسمة، وقفز بحلول سنة 1819م إلى 3000 نسمة.
وتعززت هذه الجالية خلال العقدين التاليين بوصول العشرات من يهود صفد، الذين هجروا مدينتهم بسبب الهزات الأرضية التي تعرضت لها خلال السنوات 1834- 1837م.
وكان قد طرأ تحسن على مركز اليهود في الإمبراطورية العثمانية بشكل عام والقدس بشكل خاص، وتعزز ذلك بعد حصول “مونتفيوري” الثري اليهودي البريطاني، وآخرون على فرمان من الحكومة العثمانية في تشرين أول/ أكتوبر1840م، يكفل حماية اليهود، ويضمن لهم حرية معتقداتهم الدينية؛ فاعترفت الحكومة العثمانية بالحاخام السفارادي الأكبر “الحاخام باش”، رئيسا للطوائف اليهودية في الإمبراطورية، ومنحته صلاحية الموافقة على انتخاب حاخام سفارادي أكبر ليهود فلسطين “هاريشون لتسيون”، تكون القدس مقراً له، باعتباره رئيساً وممثلاً لكل اليهود في فلسطين، ويمارس صلاحيات إدارة شؤونهم الدينية والدنيوية، وكذلك صلاحيات قضائية وسياسية،وتنفذ السلطات العثمانية الحاكمة قراراته؛ مما ركز دعائم الجالية اليهودية في فلسطين والقدس.
مع منتصف القرن التاسع عشر، برز ضعف الإمبراطورية العثمانية نتيجة لعدة أسباب أهمها:
نجاح ثورة محمد علي 1831م، التي لم تستطع إسطنبول قمعها إلا بمساندة الدول الغربية. وكذلك خلال حرب القرم عام1856م؛ مما أدّى إلى ازدياد مطامع الغرب واهتمامهم بالمنطقة، وتدخلهم في الشؤون العثمانية، من خلال توسيع نظام الامتيازات؛ مما أدّى إلى شعور المواطنين اليهود والمسيحيين بأنهم مواطنون للدول الأجنبية ويجب حمايتهم بواسطة قناصلها المنتشرين في إنحاء الإمبراطورية، وأدى ذلك إلى الاهتمام المتزايد من قبل الدول الغربية لفتح قنصليات جديدة في القدس، لرعاية مصالحها، وتقدم الحماية لرعاياها، لا سيما اليهود منهم، مما أدّى إلى ازدياد عددهم باطراد.
وقد قدمت هذه القنصليات خدمات جليلة لليهود في القدس خاصة، وفلسطين عامة، وساعدتهم على تعميق جذورهم فيها، وذلك بواسطة ثني السلطات العثمانية عن تطبيق القوانين المرعية عليهم، وساعدتهم على شراء الأرض واستيطانها. وعلى إثر الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في روسيا القيصرية وبولندا سنة 1881م، وما ترتب عليه من هجرة يهودية إلى فلسطين ارتفع عدد الجالية اليهودية في القدس من 6000 نسمة تقريبا سنة1866م، إلى ما يقارب 14000 نسمة سنة 1887م، و20.000 نسمة سنة 1890م، ليرتفع إلى 28000 نسمة سنة 1895م، وفي سنة 1912م، قفز عددهم إلى 48.000، وأصبحوا يشكلون أكثريه في القدس، ولكن ما لبث أن هبط عددهم إلى 21000 مع نهاية ضالحرب العالمية الأولى عام 1918م، نتيجة للظروف الصعبة التي مرت بها البلاد أثناء الحرب.
الانتداب البريطاني 1917- 1948م
احتل الحلفاء مدينة القدس في 9 ديسمبر 1917م، وأنشأت بريطانيا حكومة عسكرية في فلسطين، قبل أن تكمل احتلالها لشمال فلسطين، في سبتمبر 1918م.
عينت الحكومة الإنجليزية الجنرال “كلايتون” على رأس الإدارة العسكرية في فلسطين، والتي عملت بمساعدة لجنة صهيونية أرسلت إلى فلسطين، بموافقة الحكومة البريطانية على وضع التدابير الضرورية، التي من شأنها أن تضع السياسة التي انطوى عليها تصريح بلفور، موضع التنفيذ.
لقد عين الجنرال كلايتون حكاماً عسكريين في مدن فلسطين، وعين حاكماً عاماً لمدينة القدس، وهو”الكولونيل رونالدستورز”، الذي تسلم وظيفته في 28 ديسمبر 1917م، وعين كذلك عدداً من المسيحيين العرب، في وظائف مترجمين وكتبة، علماً بأن معظم الوظائف الرئيسية احتلها موظفون يهود.
الإدارة العسكرية:
أخذت الإدارة العسكرية تعمل على تنظيم دوائر الإدارة في فلسطين؛ فنظمت المحاكم المدنية، التي بقيت معطلة في فلسطين حتى أواسط عام 1918م. ومعنى ذلك، أن القضاء كان يتبع الأحكام العسكرية. وأصدرت الإدارة العسكرية بعد ذلك قراراً بإنشاء محكمة استئناف في القدس، كما أنشئت محكمتان ابتدائيتان في القدس، تخدم قضاء القدس والخليل وبئر السبع.
كما اهتمت الإدارة العسكرية بالشؤون المالية للبلاد، فأدخلت العملة المصرية إلى فلسطين، وجعلتها العملة الرسمية. كما أصدرت تعرفة رسمية حددت فيها أسعار النقود الرسمية بالنسبة للعملة المصرية، وأصدرت قانوناً للضرائب، وحددت الأسعار، وأسس الحكام العسكريون شركات اقتصادية لبيع الأقمشة التي تستورد من مصر، وألغت الإدارة العسكرية معاملات الأراضي وأغلقت دوائر الطابو.
وأوكلت بريطانيا مهمة حفظ الأمن في مدينة القدس إلى حراس من المسلمين الهنود، ممن كانوا جنوداً في الجيش البريطاني المحتل لفلسطين. وأصبحت المحافظة على الأمن منوطة بالإدارة العسكرية، لكن الإدارة العسكرية سمحت للمستوطنات اليهودية بإنشاء حرس خاص لها، وظل هذا الوضع سارياً حتى في زمن الإدارة المدنية. أما من الناحية الإدارية، فقد قسمت فلسطين إلى عدة ألوية، يحكم كل لواء حاكم إنجليزي وقسم اللواء الواحد إلى عدد من الأقضية، ويطلق على حاكم القضاء (قائم مقام)، وغالباً ما يكون من العرب. واقتصرت المناصب الرئيسية والعليا في حكومة فلسطين على الإنجليز واليهود، فكان منهم المندوب السامي، والسكرتير العام، وقاضي القضاة، وحكام الألوية.
ومنذ احتلال القدس، ظهر التواطؤ الاستعماري البريطاني مع الصهيونية. فقد سمحت بريطانيا لوفد صهيوني برئاسة “حاييم وايزمن” بالحضور إلى القدس، وقام الكولونيل “رونالد ستورز” حاكم القدس العسكري ببذل مساعيه ليعقد اجتماعات بين الوجهاء والأعيان الفلسطينيين من جهة، وأعضاء اللجنة الصهيونية والتي كانت تقوم بشرح أهداف الزيارة لإزالة مخاوف الفلسطينيين من إقامة الوطن القومي اليهودي في بلادهم ، من جهة أخرى. وحاول (ستورز) إقناع أعيان المسلمين ببيع ممر حائط المبكى مقابل 80 ألفاً من الجنيهات، الأمر الذي رفضه المسلمون.
ومن جهة أخرى، كان أعيان ووجهاء القدس قد أبدوا استياءهم واستنكارهم من خطاب الجنرال اللنبي، الذي احتل القدس في 11 ديسمبر 1917م، حيث أظهر غطرسته أثناء إلقاء خطابه أمام حشد كبير من أعيان القدس وضواحيها، وخاصة عندما قال جملته المشهورة: (اليوم انتهت الحروب الصليبية).
ولم تكتف الإدارة العسكرية بالسماح للجنة الصهيونية بزيارة القدس، ومحاولتها شراء ممر حائط المبكى. بل سمحت للجنة الصهيونية برئاسة “حاييم وايزمن”، أن تعقد اجتماعات في مدن فلسطين التي زارتها، فعقدت اللجنة الصهيونية مؤتمرها في مدينة يافا، وأعلن فيه اليهود برنامجاً متكاملاً من أجل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقرروا أن يكون لليهود حق تقرير شؤونهم واتخاذ (نجمة داوود) شعاراً للعلم الصهيوني، واستعمال أرض إسرائيل بدلا من فلسطين. وقوبلت البعثة الصهيونية بمظاهرات واحتجاجات عرب فلسطين، التي عمت معظم مدن فلسطين، وخلال ذلك شعر الفلسطينيون بعمق التحالف البريطاني/ الصهيوني؛ مما دعاهم إلى تشكيل الجمعيات وإقامة المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية في القدس وغيرها، ومن أهمها النادي العربي في القدس برئاسة “الحاج أمين الحسيني”، والجمعية الإسلامية، وجمعية الفدائية، والمنتدى العربي، ونادي الإخاء وغيرهم.
وتمحورت نشاطات هذه الجمعيات في تسليح الأعضاء بالأسلحة الخفيفة، وتدريس بعض الشبان اللغة العبرية لمتابعة ما ينشر في الصحف اليهودية، وتعليم الأطفال مبادئ الوحدة العربية، والعمل على بث الدعاية بين بدو شرق الأردن، وتركيز الجهد على الضباط الفلسطينيين في عمان؛ حتى يكونوا على أهبة الاستعداد إذا أعلنت سياسة موالية للصهيونية. كما تم تشكيل جمعية إسلامية/ مسيحية، يهدف برنامجها إلى مقاومة السيطرة اليهودية ومكافحة النفوذ اليهودي والحيلولة دون شراء اليهود للأراضي.
وقام اليهود في 2/11/1918م، بتنظيم الاحتفالات في الذكرى الأولى لوعد بلفور؛ مما حدا بالفلسطينيين القيام بمسيرات معاكسة؛ عندها هددت بريطانيا الشعب الفلسطيني، بإلقاء القبض على أي شخص يقوم بالتظاهر، ورغم ذلك قامت أول تظاهرة فلسطينية في القدس وعلى رأسها “موسى كاظم الحسيني” رئيس بلدية القدس. وعلى إثر هذا أصدر الحاكم العسكري البريطاني في القدس وثيقة في 7/11/1918م، تضمنت أهداف بريطانيا من الحرب في منطقة الشرق الأوسط، وهو تحرير الشعوب من الحكم التركي، وتأسيس حكومات تقوم على اختيار الأهالي لها اختياراً حراً.
ونتيجة لذلك عقد أول مؤتمر عربي فلسطيني في القدس في الفترة ما بين 27/ يناير- 10/ فبراير 1919م، حضره سبعة وعشرون مندوباً عن الجمعيات الإسلامية والمسيحية من مختلف أنحاء البلاد، برئاسة “عارف الداوودي الدجاني”، وأعلن المؤتمر أن قراراته تعبر عن أماني ومطالب شعب فلسطين، وتتمثل في اتحاد فلسطين مع سوريا، واعتبارها جزءاً منها، ومنع الهجرة اليهودية، ومنع قيام وطن قومي يهودي، كما أشارت إلى أن اليهود الذين يقطنون فلسطين يعتبرون مواطنين يتمتعون بكافة الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المواطنون العرب، غير أن الجنرال اللنبي منع إصدار هذا المنشور.
الإدارة المدنية البريطانية:
طبقا للمخططات البريطانية، وما تقتضيه مصلحة الحركة الصهيونية، تم إنهاء الإدارة العسكرية، وإحلال الإدارة المدنية مكانها بإسم (حكومة فلسطين)، ورفعت الأعلام البريطانية على جميع الدوائر الحكومية في فلسطين، وصاحب ذلك، الإعلان عن تولي “هربرت صموئيل” سلطاته كأول مندوب سام على فلسطين، منذ أول يوليو 1920م. وقد تولى صموئيل رئاسة المجلس التنفيذي الذي تكون من:
• السكرتير العام: وهو نائب الرئيس، ويضطلع بشؤون الإدارة، وتولاه (ويندهام ديدس).
• السكرتير المالي: ويختص بالشؤون المالية والاقتصادية.
• السكرتير القضائي: ويختص بالشؤون العدلية والقانونية، وتولاه (نورمان بنتويش).
وشكل “صموئيل” مجلساً استشارياً يتكون من عشرين عضواً نصفهم من الإنجليز، وسبعة منهم من العرب، وثلاثة من اليهود، وتكون وظيفته الاستشارية فقط.
ومع بدء تولي صموئيل سلطاته كمندوب سام على فلسطين، دعا ممثلين عن جنوب فلسطين ليجتمع بهم في القدس بتاريخ 7 /يوليو1920.
وفي 8 يوليو اجتمع إلى ممثلين عن شمال فلسطين في حيفا، وألقى بياناً حول السياسة البريطانية في فلسطين، وتلا على المجتمعين رسالة الملك جورج الخامس، التي أكثر فيها من امتداح النزاهة المطلقة التي تتبعها الدولة المنتدبة، وأكد تصميم حكومته على احترام حقوق جميع الأجناس والعقائد في فلسطين، وأخذ يشرح القواعد الأساسية للحكومة وأعمالها، وتحدث عن الوطن القومي لليهود، وأعلن أن قيام الوطن القومي لليهود يساعد على نهوض أحوال البلاد اقتصادياً.
وبذلك أوضح صموئيل النقاط الأساسية التي جاء من أجل تنفيذها، والعمل على تثبيتها في فلسطين، التي تمثل هدفة الرئيس في وضع الأسس الكفيلة بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ولذلك؛ فقد فتح فلسطين للهجرة اليهودية، وحددها سنوياً 1650 مهاجراً، وعمل على إنشاء لجنة للأراضي، كان هدفها تسهيل عمليات البيع لليهود، ومنح اليهود استثمارات ومشروعات كبرى، منها مشروع “روتنبرغ” للكهرباء، ومشروع “بوتاس البحر الميت”، وغيرها من المشاريع الهامة والإستراتيجية في فلسطين، كما اعتمد اللغة العبرية لغة رسمية في البلاد، مع أن غالبية الشعب عربي مسلم، وتم عرض برنامج صموئيل هذا على مجلس العموم البريطاني، فوافق عليه في 27 /أكتوبر 1920م
وهذه كانت البداية الحقيقية التي أزاحت اللثام عن الوجه الزائف للاحتلال البريطاني؛ الأمر الذي أثار صراعاً سياسياً في البلاد منذ بداية الانتداب حتى نهايته، أكد الشعب العربي الفلسطيني خلاله عزمه على مكافحة السياسة الاستعمارية والسياسة الصهيونية الاستيطانية ومقاومتهما، فأعلن حرباً على الصهيونية.
وقامت المظاهرات والثورات المتلاحقة، وعقدت المؤتمرات التي نددت بالصهيونية والاستعمار، وشكلت الحركات والأحزاب الثورية والمجالس والجمعيات النقابية والوطنية، وكرست كل جهدها لمقاومة الاستعمار وسياسة التهويد التي ينتهجها.
وفي شهر آذار/ مارس 1921م، أصدر المندوب السامي “هربرت صموئيل” أمراً بتشكيل مجلس إسلامي أعلى يشرف على إدارة الأوقاف الإسلامية، وتعيين قضاة المحاكم الشرعية، وعرف بالمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، ومركزه القدس، وتألف من رئيس العلماء وأربعة أعضاء، وأنيطت به إدارة ومراقبة الأوقاف الإسلامية، وتعيين القضاة الشرعيين ورئيس وأعضاء محكمة الاستئناف الشرعية، واختير مفتي القدس “الحاج أمين الحسيني” رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى، وذلك بعد وفاة أخيه “كامل الحسيني” في عام 1922م.
لقد اهتم المجلس بالأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية والمعاهد الدينية، وغيرها من المؤسسات الإسلامية، ولا سيما المسجد الأقصى.
التنظيم البلدي خلال فترة الانتداب:
قام الجنرال اللنبي بعد فترة قصيرة من دخوله القدس، باستدعاء ماكلين (Mclean)، مهندس مدينة الإسكندرية، لوضع الخطة الهيكلية الأولى لمدينة القدس، والمقاييس والمواصفات والقيود المتعلقة بالبناء والتطوير فيها، وقام الأخير بوضع أول مخطط هيكلي لها سنة 1918م، كان أساساً للمخططات التي تلته، وبناءً على هذا المخطط تم تقسيم المدينة إلى أربعة مناطق:
1. البلدة القديمة وأسوارها.
2. المناطق المحيطة بالبلدة القديمة.
3. القدس (العربية).
4. القدس الغربية (اليهودية).
ونصت الخطة على منع البناء منعاً باتاً في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، ووضَعت قيوداً على البناء في القدس “العربية”، وأعلن عن القدس الغربية “اليهودية” كمنطقة تطوير.
وقد اتسم هذا المخطط بتعزيز الوجود اليهودي في المدينة، كما عمل على إحاطتها بالمستوطنات؛ لمنع أي توسع عربي محتمل، ومحاولة السيطرة على الحكم البلدي، كخطوة نحو الاحتلال الكامل للمدينة، وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية.
وقامت سلطات الانتداب بحل المجلس البلدي، وتعيين لجنة من ستة أعضاء لإدارة البلدية، تتألف من اثنين من كل طائفة، وكان يرأس هذه اللجنة أحد أعضاء المسلمين، وينوب عنه في حال غيابه عضوان من الطائفتين الأخريين، ويقومان بمهام الرئيس بالتناوب.
ومع تطبيق الإدارة المدنية عام1920م، أعيد تشكيل هذه اللجنة، حيث عينت السلطات البريطانية مجلساً استشارياً لإدارة شؤون البلدية، يتكون من 17 عضواً: منهم عشرة ضباط بريطانيين، وأربعة أعضاء مسلمين، وثلاثة أعضاء يهود. ثم استبدل هذا المجلس بمجلس آخر يرأسه عربي، يتكون من 12 عضواً نصفهم من العرب (4 مسلمون +2 مسيحيون)، والنصف الباقي من اليهود.
وخلال الفترة ما بين 1918- 1947م، خدمت مجموعة من العوامل الخارجية، مساعي الحركة الصهيونية؛ فمع تزايد أعمال العنف ضد اليهود في مختلف أنحاء أوروبا، وصعود النازية إلى الحكم في ألمانيا سنة 1933م، ازدادت هجرة اليهود من دول أوروبا إلى فلسطين، بتشجيع سلطات الإنتداب البريطاني. فقفز عدد المستوطنين اليهود من عشرة آلاف عام 1918م، إلى ما يعادل 25% من مجموع السكان.
لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد السكان في القدس وفلسطين، قبل إجراء الإحصاء التركي عام 1914م، والذي يلخصه كتاب إحصاء فلسطين الصادر عام 1922م والذي بموجبه بلغ عدد سكان فلسطين “689.273” ألف نسمة، منهم أقل من 60 ألف يهودي، وما لبث أن انخفض عدد اليهود إلى النصف خلال الاضطراب الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى.
في حين تشير المعلومات الإسرائيلية، أن سكان القدس بلغ عددهم عام 1917م (323.000) نسمة. ولو صح هذا الرقم، فانه يعني أن جميع اليهود في فلسطين كانوا يقطنون القدس.
ملكية مساحة الأراضي خلال الانتداب البريطاني:
– أملاك عربية 40%.
– طوائف مسيحية 13.86%.
– أملاك يهودية 26.12%.
– حكومية وبلدية 2.90%.
– طرق وسكك حديدية 17.12%.
حيث تركز تقارير السكان المنشورة في الوثائق الإسرائيلية، على معلومات مغلوطة عن نسبة عدد السكان؛ وذلك لتجنب المناطق الجغرافية التي يقطنها العرب، لأن تعيين الحدود البلدية خلال عهد الانتداب رسم بطريقة ترتبط بالوجود اليهودي. حيث امتد خط الحدود ليشمل جميع الضواحي اليهودية التي أقيمت غربي المدينة، فقد امتد الخط من هذا الجانب إلى عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجوانب الشرقية والجنوبية على بضع مئات من الأمتار، فنجد خط الحدود يقف بإستمرار أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة؛ مما أدى إلى بقاء قرى عربية كثيرة، خارج حدود البلدية، مثل: (سلوان، العيسوية، الطور، دير ياسين، لفتا، شعفاط، المالحة، عين كارم، بيت صفافا)، على الرغم من تداخلها والتصاقها بالمدينة.
لقد أثارت السياسة البريطانية مخاوف الشعب الفلسطيني، حيث دعمت بريطانيا إقامة الوطن القومي اليهودي، وكانت سبباً للأرقام المتصاعدة من المهجرين اليهود إلى فلسطين،وأظهرت هذه الأرقام أن هذه الهجرة ستحيل العرب الفلسطينيين إلى أقلية في بلادهم خلال فترة وجيزة؛ فقام الشعب الفلسطيني بعدد من الثورات ضد سياسة الهجرة واستملاك الأراضي، وكان من أبرزها ثورات 1920، 1929، 1933، وثورة 1936م، التي استمرت إلى 1939م، حيث كانت القدس مركز هذه الثورات و نقطة الانطلاق.
وحاول البريطانيون طيلة فترة الانتداب التوصل إلى “تسوية” بين العرب واليهود، وقدموا العديد من المشاريع التي تعزز مكانة اليهود في فلسطين والقدس. فعلى أثر ثورة 1929م، ارتأت حكومة الانتداب تقسيم فلسطين إلى كانتونات (مقاطعات)، بعضها عربي والبعض الآخر يهودي، يتمتع كل منها بالحكم الذاتي في ظل الانتداب، ولكن العرب في فلسطين قاوموا هذا المشروع وأحبطوا أغراضه.
وعاودت بريطانيا طرح فكرة التقسيم من جديد في أعقاب ثورة 1936م، إذ شُكلت على أثرها لجنة تحقيق ملكية (لجنة بيل Peal)، خرجت بتوصية مفادها (تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية، وعربية، ووضع القدس تحت نظام دولي لقدسيتها، بحيث تشمل المنطقة الممتدة من شمال القدس، حتى جنوبي بيت لحم مع ممر بري إلى يافا).
وقد فشل هذا المشروع أيضاً أمام الثورة والمقاومة العربية؛ فتخلت عنه بريطانيا وفقاً لتوصية لجنة من الخبراء (لجنة وودهيد)، التي شكلت لبحث إمكان تنفيذ التقسيم وفقاً لمشروع لجنة “بيل”.
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، عادت قضية القدس إلى إطارها كجزء من القضية الفلسطينية، وعادت بريطانيا إلى دورها أثناء الحرب العالمية الأولى بإصدار الوعود للعرب، وإلى سعيها لتحقيق الأهداف الصهيونية العالمية.
وكانت السياسة البريطانية ترى أن تقسيم فلسطين هو إحدى الوسائل لتهويدها ثم تحويلها إلى دولة يهودية.ولتحقيق ذلك اتجهت بريطانيا إلى الأمم المتحدة، وسعت لاستصدار قرار يكون له قيمة دولية، وتلزم به دولاً كثيرة؛ مما يوفر لها مخرجاً للتملص من تنفيذ ما تضمنه صك الإنتداب، من وعود للعرب، وواجبات نحوهم.
وعندما هيأت الحكومة البريطانية الجو الدولي الملائم، أعلن وزير خارجيتها في 18/ فبراير 1947م، عن اعتزام “حكومة صاحب الجلالة عرض المسألة لحكم الأمم المتحدة، لتوحي بتسوية لها”. وبعد مشاورات مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، طلبت إدراج مسألة فلسطين على جدول الأعمال للدورة العادية المقبلة بتاريخ 18/ أبريل 1947م. وتم عقد دورة استثنائية؛ لتشكيل لجنة خاصة للنظر في مسألة فلسطين، ورفع تقرير عنها إلى الجمعية العمومية في الدورة العادية المقبلة.
وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه، عقدت الجمعية العامة دوره استثنائية طلب فيها مندوب بريطانيا، أن تقتصر أعمالها على تشكيل لجنة تحقيق. وقدمت الدول العربية اقتراحاً لإدراجه على جدول الأعمال، ويقضي الاقتراح العربي “بإنهاء الانتداب على فلسطين وإعلان استقلالها”.
وكان الإتحاد السوفيتي قد قدم اقتراحاً مشابهاً، إلا أن الاقتراح البريطاني هو الذي فاز، ويقضي بطلب تشكيل لجنة خاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين (unscop). ويكون من مهامها تفحص جميع القضايا والمسائل ذات العلاقة بمسألة فلسطين، ودراسة قضية فلسطين من جميع وجوهها، كذلك أحوال اليهود المشردين في أوروبا والموجودين في معسكرات الاعتقال.
وبذلك نجحت بريطانيا في الربط بين قضية فلسطين، ومشكلة اليهود المشردين في أوروبا، وأحالت الجمعية العامة قرارها إلى لجنتها السياسية التي أقرت تشكيل اللجنة في 22/ مايو 1947م، والتي أوصت بدورها تقسيم فلسطين الى دولتين: يهودية، وعربية، وإنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، وإقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين، الأمر الذي رفضته الهيئة العربية العليا للفلسطينيين، كما رفضته الدول العربية على أساس أن الأمم المتحدة قد تخطت صلاحياتها في هذا الشأن، أما الحركة الصهيونية التي كانت تصر على إقامة دولة يهودية على كامل الأراضي الفلسطينية، وجعل القدس عاصمة هذه الدولة، فقد قبلت به بتردد كثمن للحصول على قرار دولي بإقامة دولة لليهود.
وإذا ما حاولنا التطرق بنوع من التخصص إلى القدس العربية، والممارسات البريطانية عليها، فهي لم تختلف عن الممارسات البريطانية تجاه القدس بشكل عام؛ فقد تميزت جميعها بتسهيل سيطرة اليهود على المدينة، والحكم البلدي فيها، ومن أجل تحقيق ذلك تلاعبت الإدارة البريطانية بحدود مسطح البلدية وبقوائم الناخبين، بحيث كانت الحدود تستبعد الأحياء العربية، بينما تدخل الأحياء اليهودية ضمن مسطح البلدية برغم بعدها عنها؛ وبذلك سهلت الإدارة البريطانية على اليهود الإدعاء بتحقيق أكثرية في المدينة والمطالبة برئاسة البلدية.
ففي عام 1937م، قامت سلطات الانتداب باعتقال رئيس البلدية العربي الدكتور حسين فخري الخالدي، ونفته إلى جزر سيشل مع أعضاء الهيئة العربية العليا، وعينت نائب رئيس البلدية “دانييل واستر” رئيساً، لكنها تراجعت في السنة التالية أمام شدة المعارضة العربية، وعينت رئيساً مسلماً للبلدية هو مصطفى الخالدي، وقد تكررت هذه المحاولة مرة أخرى في آب أغسطس 1944م، عندما توفي رئيس البلدية العربي، حيث قام البريطانيون بتعيين نائبه اليهودي خلفاً له مرة أخرى، لكن العرب عارضوا هذا الإجراء فاقترح البريطانيون اتباع نظام التناوب على رئاسة البلدية مرة كل سنتين، بحيث يكون أول رئيس يهودياً والثاني عربياً والثالث بريطانياً، فلجأ العرب إلى مقاطعة جلسات المجلس البلدي، فقام البريطانيون بحله في 11/يوليو 1945م، وتعيين لجنة بديلة من ستة موظفين بريطانيين، وتم حرمان العرب من رئاسة البلدية، وفي هذه الأثناء كانت الحرب العالمية الثانية قد توقفت، فاستأنفت المنظمات الإرهابية الصهيونية نشاطها ضد البريطانيين والعرب، والذي كان قد اتخذ أبعاداً جديدة من سنة 1939م، في أعقاب صدور الكتاب الأبيض.
الصراع الفلسطيني- اليهودي:
عندما أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14/أيار (مايو) 1948م، وضمن تلك الظروف التي صنعتها لولادة الدولة اليهودية، أخذت المنظمات اليهودية الإرهابية في تصعيد حرب الإبادة وأعمال العنف واستخدام كافة الأساليب النفسية؛ لبث الذعر في نفوس عرب فلسطين، وإجبارهم على الفرار من بيوتهم وأخذ الأراضي خالية من السكان.
نفذت المنظمات الإرهابية اليهودية، العديد من المجازر البشعة ضد المدنيين العزل، بهدف تشريد وتهجير الشعب الفلسطيني، ومنها المذبحة التي نفذتها العصابات اليهودية في قرية دير ياسين، بالقرب من القدس في 9/ نيسان (إبريل) 1948م، والتي أسفرت عن مقتل 250 فلسطينياً. وكتب العقيد “مئير باعيل” كشاهد عيان للمجزرة قائلاً: “بعد أن خرج رجال البالماخ من القرية أي “دير ياسين” بدأ رجال إتسل وليحي مذبحة مخجلة في صفوف الرجال والنساء والشيوخ والأطفال دون تمييز، بتوقيفهم بجانب الجدران وإطلاق النار عليهم، وأضاف أن خمسة وعشرين رجلاً نقلوا إلى سيارة شحن واقتيدوا إلى مقلع للحجارة يقع بين غفعات شاؤول ودير ياسين، وهناك أطلق عليهم الرصاص بدم بارد” ووصف الكاتب العملية بأنها (وصمة عار في تاريخ الشعب الإسرائيلي).
وبحلول 14/أيار(مايو) 1948م، موعد إنهاء الانسحاب البريطاني من فلسطين، أعلن مخلص الدولة المؤقت (الإسرائيلي) عن قيام دولة إسرائيل، الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين، حيث أسفرت الحرب عن وقوع القدس الغربية بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت السيطرة الإسرائيلية، والتي تجاوزت مساحتها، المساحة التي نص عليها قرار التقسيم. وبقيت القدس العربية تحت سيطرة الأردن، وتوقف القتال بإتفاقية لوقف إطلاق النار بين الجانبين، أبرمت في الثلاثين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1948م، ثم تحولت إلى اتفاقية هدنة بين البلدين عقدت تحت إشراف الأمم المتحدة في 3 /نيسان (إبريل) 1949م.
ملكية الأراضي بعد إتفاقية الهدنة في القدس:
المساحة الواقعة تحت الحكم الأردني 2220 دونم بنسبة 11.48%
المساحة الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي 16261 دونم بنسبة 84.13%
مناطق الأمم المتحدة والمناطق الحرام 850 دونم بنسبة 4.39%
وبوقوع الجزء الأكبر من مدينة القدس تحت السيطرة الإسرائيلية، أخذت إسرائيل تعمل على دمج هذا الجزء العريض من المدينة بالدولة الإسرائيلية، وبذلك تجاوزت إسرائيل قرار التقسيم الذي كانت قد قبلته على مضض أثناء مناقشات إلحاق عضويتها بالمنظمة الدولية.
ومن الجدير ذكره هنا أنه في منتصف تموز1948م، قام الجيش الإسرائيلي بمحاولة فاشلة لاحتلال المدينة القديمة سميت عملية (كيديم). وفي أواخر أيلول 1948م، تلقى بن غوريون نكسة أخرى عندما تحالف ثلاثة من وزراء حزبه (شاريت، كابلان، وريميز) مع أعضاء آخرين في الائتلاف؛ لرفض اقتراحه القيام بعملية عسكرية ضد اللطرون من أجل تأمين “قدس يهودية” حسب زعمه، وعندما حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك “بن غوريون” زملاءه، من أن معارضتهم هذه ستسبب “بكاء الأجيال”، ثم قدم بن غوريون اقتراحاً مماثلاً سنة 1952م لاحتلال قضائي القدس والخليل، ولكن الحكومة عارضت هذا الاقتراح بأكثرية أعضائها.
إعلان دولة إسرائيل 1948
إن التغيير الذي أحدثته إسرائيل للقدس عقب الإعلان عن قيامها رسمياً، لم يؤثر قانونياً وعملياً على قرار التقسيم، حيث أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 194 (الدورة الثالثة) في 11/ كانون الأول (ديسمبر) 1948م، الذي عاد وأكد مرة أخرى مبدأ تدويل المدينة، وقرار تشكيل لجنة توفيق، من مهامها وضع نظام دائم لتدويل منطقة القدس، حيث وافقت الدول العربية لدى اجتماعها بلجنة التوفيق الدولية، التي تشكلت من فرنسا والولايات المتحدة وتركيا وفقاً للقرار 194- على فكرة التدويل لمنطقة القدس، دون تقسيم الأماكن المقدسة فيها، الأمر الذي لم تقبله إسرائيل، غير أنها أعلنت موافقتها على تدويل الأماكن المقدسة.
وعادت الجمعية العامة في قرارها رقم 303 (الدورة الرابعة) بتاريخ 4/ كانون الأول (ديسمبر) 1949م، فأكدت عزمها على وضع القدس تحت نظام دولي خاص، يضمن حماية الأماكن المقدسة داخل المدينة وخارجها، وعهدت الجمعية إلى مجلس الوصاية بالاضطلاع بأعباء المسؤوليات التي تتطلبها السلطة القائمة بالإدارة، وأن يخضع لهذا الغرض “دستور القدس”، فقام مجلس الوصاية بوضع الدستور المطلوب، وسرعان ما أعلن عجزه عن تنفيذ هذا النظام، أمام إعلان إسرائيل نقل عاصمتها إلى القدس في 11/12/1949م، وقيامها بإجراءات الضم الأخرى، وإعلان الأردن في اليوم التالي ضم الجزء الذي احتله من أراضي القدس. كما عملت إسرائيل على إلحاق ذلك الجزء من القدس الذي وقع تحت احتلالها ضمن سلطتها من خلال اتخاذها الإجراءات والتدابير التالية:
1. تشكيل المحكمة العليا الإسرائيلية في القدس في أيلول/سبتمبر 1948، وفي 1949م، أقسم “حاييم وايزمن” اليمين القانونية في القدس كأول رئيس لدولة إسرائيل.
2. في 13/ كانون الأول (ديسمبر) 1948م، انعقدت الكنيست الأولى في القدس.
3. في آب/أغسطس 1968م، تم تدشين المبنى الجديد للكنيست.
4. في 23 /كانون الثاني(يناير) 1950م، أعلن الكنيست أن القدس عاصمة لدولة إسرائيل.
5. وبحلول عام 1951م، انتقلت الوزارات الإسرائيلية إلى المدينة المقدسة، باستثناء وزارتي الدفاع والخارجية. وما لبثت إسرائيل أن نقلت الخارجية إلى القدس عام 1953م.
وهناك بعض الإجراءات الإدارية والقضائية، التي تشكل إشارات أخرى إلى نية إسرائيل الاحتفاظ الدائم بالجزء الذي إحتلته من المدينة المقدسة.
الحكم البلدي:
مع قيام إسرائيل بإحكام قبضتها على المدينة، شكلت لجنة بلدية موسعة، تتألف من أعضاء البلدية اليهود السابقين الستة، وممثلين عن لجنة الجالية (فاعد هكهيلاه) والأحياء اليهودية لممارسة مهامها، لكن ما لبثت وزارة الداخلية الإسرائيلية في يناير 1949م، أن عينت مجلساً بلدياً جديداً برئاسة “دانييل أوستر”.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1950م، جرت أول انتخابات بلدية خاضتها قوائم حزبية، على أساس التمثيل النسبي، وفاز فيها “شلومو زلمان مزراحي” كرئيس للبلدية عن اليهود العموميين، وعملت إسرائيل على تكثيف وجودها في هذا الجزء اقتصادياً وعسكرياً وديموغرافياً أيضاً؛ لتعزيز وضعها السياسي والإستراتيجي كعاصمة لها.
وقد استطاعت إسرائيل خلال السنوات التي تلت سيطرتها على الجزء الغربي من المدينة، مضاعفة عدد اليهود نتيجة لموجات الهجرة التي أعقبت الحرب، فقد سجل الإحصاء الأول للسكان في أواخر عام 1948م، وجود 84 ألف نسمة في القدس الغربية، وفي نهاية 1949م، وصل العدد إلى 103 آلاف، وخلال الفترة ما بين 1948- 1951م، كان عدد اليهود قد زاد بمقدار 54 ألف مستوطن جديد يمثلون نحو 65% من السكان. فقد أظهر إحصاء 1961م، وجود 167 ألفاً، ارتفع إلى 197 ألفاً حتى حزيران 1967م.
ويعود ارتفاع معدل السكان هذا بشكل رئيس إلى وصول المهاجرين الجدد، وعمليات التهجير المنظمة من داخل “إسرائيل”، وكذلك التزايد الطبيعي لليهود الأرثوذكس وللطوائف الشرقية، وتم استيعاب معظم المهاجرين الذين قدموا للقدس خلال الفترة 1948- 1951م، في المساكن العربية التي هجرها سكانها العرب أثناء الحرب، وعندما امتلأت هذه المساكن، جرى استيعاب الفائض في المعسكرات التي خلفها الجيش البريطاني، ثم عمل الاحتلال الإسرائيلي على إنشاء مجموعات من المساكن الشعبية في حي القطمون العربي، وهي (كريات هيوفيل، وكريات مناحيم).
ولاستيعاب هذه الأعداد المتزايدة؛ تم توسيع حدود البلدية من الجهة الغربية عام 1952م،وأصبحت تضم القرى العربية التي هجِّر منها سكانها العرب، كما جرى بناء أحياء فوق أراضي دير ياسين ولفتا.
ولقد أدّى الارتفاع في عدد السكان إلى ازدياد النشاط العمراني في المدينة واتساع رقعتها. ففي نهاية الخمسينات تم البدء ببناء مركز حكومي جديد (هكرياه)، مقابل موقع الجامعة العبرية، كمقر لرئاسة الوزراء، ووزارتي المالية والداخلية، ثم وزارة العمل فيما بعد. إضافة إلى إنشاء مبنى الكنيست على هضبة واقعة إلى الجنوب الشرقي من المكان، والى الجنوب منه أقيم المتحف الوطني الإسرائيلي، ومؤسسات رسمية وعامة ودينية وأكاديمية عديدة، كما تم إنشاء مقابر للزعماء الروحيين الإسرائيليين في المدينة لتعزيز روحانية المدينة لدى الإسرائيليين، وأُنشئ العديد من الفنادق والمنشآت السياحية.
برغم تلك الجهود التي بذلتها إسرائيل بقيت المدينة أشبه بمكانة العاصمة الثانية؛ حيث استنكرت غالبية دول العالم الإجراءات الإسرائيلية في القدس، ورفضت التعامل معها كعاصمة لدولة إسرائيل، وتمثل هذا الرفض في امتناع هذه الدول عن إقامة سفاراتها، أو نقل بعثاتها، لدى إسرائيل إلى القدس، وكذلك في رفضها تقديم أوراق سفرائها لدى إسرائيل في القدس.
علاوة على معارضة المجتمع الدولي لهذه السياسة، اعترضت إسرائيل مصاعب داخلية تتعلق بوضع المدينة كمركز ديني وروحي، ووضعها الجغرافي الاقتصادي على خطوط الهدنة، فبعد مرور ستة عقود من الزمن على احتلالها، واتخاذ عدد من القرارات بتحويلها إلى مركز إداري، لم تستطع الحكومات المتعاقبة تنفيذ هذه القرارات، وبقيت الوزارات الرسمية في تل أبيب، واكتفت بمكاتب رمزية لها في القدس، وعللت الأوساط الإسرائيلية ذلك بكون المدينة تجابه ظروفاً جغرافية وطبوغرافية تؤثر في تطورها الاقتصادي، حيث أنها لا تقع في وسط إسرائيل. ورغم التحسينات الكبرى التي طرأت على الطرق وشبكات المواصلات، إلا إنها ما زالت تفتقر إلى الربط السريع بمراكز إسرائيل الأخرى، ومن أجل ذلك لا تبدو القدس قادرة على جذب الاقتصاد إليها.
ملكية الأراضي في القدس الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية:
33.9% ملكية للفلسطينيين
30.04% ملكية لليهود
15.21% ملكية المؤسسات الأوروبية والمسيحية
21.06% حكومية وبلدية وطرقات
احتلال القدس الشرقية وضمها عام 1967:
مع اندلاع حرب حزيران 1967م، أتيحت الفرصة لإسرائيل لاحتلال بقية المدينة، ففي صبيحة السابع من حزيران/ يونيو 1967م، بادر “مناحيم بيغين” الوزير بلا وزارة في حكومة التكتل الوطني، التي شكلت عشية الحرب باقتحام المدينة القديمة، وتم الاستيلاء عليها بعد ظهر اليوم نفسه. وعلى الفور أقيمت إدارة عسكرية للضفة الغربية ترأسها الجنرال “حاييم هيرتسوغ”، الذي كان حاكماً عسكرياً للمنطقة منذ سنة1963م، عندما قام الجيش الإسرائيلي بتنظيم وحدات الحكم العسكري لإدارة المناطق التي تحتلها إسرائيل في حالة نشوب حرب.
وقد جعل “هيرتسوغ” من فندق الأمباسادور في القدس الفلسطينية مقراً لقيادته، وتم تعيين إدارة عسكرية للمدينة تتألف من “شلومو لاهط” حاكماً عسكرياً، و”يعقوب سلمان” نائباً له، ووضعت تحت قيادتها قوات كبيرة، تألفت من لواء مظلي، وكتيبتي مشاة، وكتيبة حرس حدود، وكتيبتي هندسة، وكتيبتي مدفعية، لإحكام السيطرة الكاملة على المدينة.
وكانت النوايا الإسرائيلية تجاه المدينة المقدسة، تتمحور حول تهجير أكبر عدد ممكن من سكانها الفلسطينيين لتسهيل السيطرة عليها وابتلاعها، وبالفعل كان أول عمل للاحتلال الإسرائيلي في المدينة مباشرة بعد احتلاها، هو هدم حي المغاربة المحاذي لحائط البراق، كان ذلك بناء على أوامر تلقاها لاهط من دايان قبل وصوله القدس، وبعد أن رفض السكان إخلاء بيوتهم قال “إيتان موشيه” المكلف بتنفيذ العملية: “إن أكف الجرافات ستقنعهم بذلك”، وتم الهدم تحت جنح الظلام، ولم تقتصر عملية الهدم على الحي فقط، بل طالت مباني إضافية، ومواقع مقدسة، منها مسجد البراق وقبر الشيخ، أما سكان حي المغاربة فقد نقلوا إلى بيوت في أحياء أخرى من مدينة القدس، مثل الحي اليهودي الذي هجره سكانه اليهود أبان حرب 1948م.
مارس الاحتلال العديد من الأساليب ضد سكان القدس، حيث كان يعتقل المئات، ويروع الآخرين، أثناء عمليات اقتحام الجنود المسلحين للمنازل، وتفتيشها وتحطيمها وسلبها، بالإضافة إلى تجميع البالغين من الرجال وإجبارهم على رفع أيديهم أمام الجدران والتحقيق معهم، ثم سوقهم إلى نقاط تجمع من خلال الإيحاء بأنهم ذاهبون إلى الموت. وفي غضون ذلك كان أمامهم طرح آخر بديل يتمثل بالسماح لهؤلاء السكان بالالتحاق بأفراد عائلاتهم في الضفة الشرقية، بعد وضع سيارات النقل تحت تصرف المعنيين بالرحيل بعد توقيعهم على وثيقة تشير إلى تركهم للمدينة طوعاً، وكل هذا كان ينصب تحت سياسة “تفريغ المدينة من سكانها الأصليين”، كما بدأت إلى جانب ذلك عمليات السطو على البيوت والمحلات التجارية من قبل العصابات اليهودية والجيش.
ولم تقتصر عملية الهدم على حي المغاربة فقط، بل طالت ثلاث قرى أخرى في منطقة اللطرون القريبة من القدس هي (بيت نوبا، عمواس، يالون)، تم هدمها جميعاً وطرد سكانها الفلسطينيين منها، وكان ذلك بعد انتهاء القتال بأيام قليلة. وكانت هذه الأعمال بمثابة دلائل على النوايا الإسرائيلية تجاه القدس؛ فخلال الأسابيع الثلاثة التي تلت الاحتلال، وقبل ضم المدينة رسمياً، قامت السلطات الإسرائيلية بدمج شطري المدينة من خلال إزالة بوابة “مندلباوم” التي شكلت بوابة العبور بين شطري المدينة ما بين سنتي 1949- 1967م جنباً إلى جنب مع بقية إشارات خط وقف إطلاق النار القديم، ووحدت شبكات البنى التحتية بين شطري المدينة، وساهمت بلدية القدس الغربية بشكل فعال في جميع هذه الإجراءات، على الرغم من كون المدينة خاضعة للحكم العسكري، وتنطبق عليها قواعد القانون الدولي للمناطق الخاضعة للاحتلال.
إجراءات الضم الإسرائيلية للقدس الشريف:
بعدما أحكمت إسرائيل سيطرتها العسكرية على المدينة، وبعد أن قامت بإجراءات عملية غير شرعية لضم المدينة؛ تمهيدً لتهويدها كلياً. و بعد توقف القتال في مدينة القدس، كانت مسألة الضم القانوني موضع بحث بين الوزراء في وزارة العدل الإسرائيلية منذ 9/ حزيران (يونيو) 1967م، ولم يكن من السهل للوهلة الأولى، إصدار تشريع بهذا الشأن؛ نظراً لعدم وجود حدود دولية معترف بها لإسرائيل، ومن ناحية أخرى يتناقض مثل هذا الضم غير الشرعي مع القانون الدولي.
وكان هناك تباين في الآراء بين أعضاء حكومة إسرائيل، ولكن هذا التباين في الآراء لم يكن لحسابات خارجية أو قانونية، بل إقتصر الخلاف على كيفية الضم وليس المضمون. ففي حين حاولت وزارة العدل الإمتناع عن العمل على إصدار تشريع لهذا الغرض مكتفية، بدلاً من ذلك، بإجراءات إدارية لا تثير أصداء دولية كبيرة- ظهر في الحكومة رأي آخر يطالب بالقيام بذلك عن طريق نشر أمر توسيع حدود بلدية القدس في الجريدة الرسمية بقرار من وزير الداخلية، واتخذ فريق ثالث من الوزراء بينهم رئيس الحكومة “ليفي أشكول” والوزير بلا وزارة “مناحيم بيغن”، موقفاً يطالب بضم القدس بواسطة تشريع خاص في الكنيست، ولكن هذا الفريق تراجع عن موقفه بعد أن أوضحت له غالبية الوزراء أن سن قانون خاص يفرض السيادة الإسرائيلية على القدس المحتلة وحدها سيفسر تنازل مسبق لضم مناطق إضافية إلى الدولة في المستقبل.
وفي النهاية تم الإتفاق على أن تكلف لجنة وزارية خاصة لبلورة اقتراح لتسوية الوضع القانوني والإداري للقدس الموحدة. غير أنه أريد لضم القدس أن يكون من خلال السلطة التشريعية في إسرائيل، وليس من قبل السلطة التنفيذية؛ لذلك تم اختيار قانون أنظمة السلطة والقضاء 5708- 1948م. وهذا القانون هو أول تشريع أقره مجلس إسرائيل المؤقت بعد إعلان قيامها؛ لضمان الاستمرارية القانونية في المناطق التي اعتبرت آنذاك (دولة إسرائيل)، أو تلك التي تحتلها أو تضمها، وتقرر أن يستخدم هذا القانون ويسند إليه التشريع الجديد لضم القدس عن طريق إضافة مادة واحدة إليه وهي المادة 11 (أ)، و تنص على أن يسري قانون الدولة وقضاؤها وإدارتها، على كل مساحة من أرض إسرائيل حددتها الحكومة بمرسوم، وبهذا منحت إسرائيل نفسها ضم أي جزء إليها.
وبتاريخ 28/6/1967م، أصدرت الحكومة استناداً إلى هذا القانون مرسوماً بشأن سريان قانون الدولة وقضائها وإداراتها على مساحة تبلغ 69.990 دونماً، تضم كل القدس القديمة، ومناطق واسعة محيطة بها، تمتد من صور باهر في الجنوب، إلى مطار قلندية في الشمال، وكان المسطح البلدي لمدينة القدس في ذلك الوقت، يقع ضمن مساحة قدرها 37.200 دونم، أصبحت بعد عملية الضم ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل الاحتلال. لقد كان الهدف من ذلك ضم أكبر مساحة من الأرض مع أقل عدد ممكن من السكان العرب، للمحافظة على أكثرية يهودية في المدينة.
كان “قانون أنظمة السلطة والقضاء” المشار إليه سابقاً، كافيا لتخويل الحكومة تطبيق القانون والقضاء والإدارة على المنطقة المشار إليها، ولكنه لم يكن كافيا لإلحاق هذه المنطقه بصلاحية مجلس بلدية القدس اليهودية، فقانون البلديات البريطاني لسنة 1934م، ينص على إجراء استفتاء لسكان المنطقة المراد ضمها، ولتلافي ذلك أقرت الكنيست في الجلسة نفسها يوم 27/ حزيران (يونيو) 1967م، التعديل الجديد لقانون البلديات رقم 6 لسنة 5727- 1967م، يسمح للوزير بحسب تقديره ودون إجراء أي تحقيق أن يصدر إعلاناً يوسع فيه منطقة اختصاص بلدية ما، بواسطة ضم مساحة تحددت في مرسوم صادر، وفي اليوم التالي لإقرار هذا التعديل، نشر وزير الداخلية إعلانا في الجريدة الرسمية بشأن توسيع “حدود بلدية القدس”، ضمت بموجبه كامل المنطقة التي حددتها الحكومة سابقا بمرسوم، إلى منطقة بلدية القدس، ووضعت تحت إشراف مجلس البلدية الإسرائيلي.
وفي اليوم التالي الذي تمت فيه المصادقة على هذين القانونين، أقرت الكنيست تشريعاً ثالثاً، اعتبرته السلطات الإسرائيلية مكملاً لها، وهو قانون المحافظة على الأماكن المقدسة 7527- 1967م.
وعلى الرغم من أن هذه القوانين كانت كافية لحل مسألة السيطرة الإسرائيلية على القدس العربية، وضمها إلى إسرائيل، وإلحاقها بمنطقة صلاحية بلدية القدس الغربية، إلا أن الكنيست الإسرائيلية عادت وأقرت في 30/تموز (يوليو) 1980م، بشكل استثنائي قانوناً جديداً عرف باسم “قانون أساسي”. أقر بأن القدس عاصمة إسرائيل 5841- 1980م. وكانت قد تقدمت بهذا المشروع النائبة، “غيئولا كوهين”، والتي كانت عضواً في المنظمة الإرهابية ليحي “عصابة شتيرن” قبل قيام إسرائيل، ومن ثم عضواً في “حزب حيروت” وبعده الليكود.
وشكلت قوانين الضم هذه أساساً لقوانين أخرى، وإجراءات عملية تهدف إلى إبتلاع المدينة، وتعزيز السيطرة عليها، وكذلك المناطق المجاورة لها، وتم ذلك من خلال وسائل عديدة، تمثلت في التضييق على السكان العرب الأصليين لإفراغ المدينة منهم، هذا عدا عن مصادرة الأراضي و إقامة التجمعات الاستيطانية.
وعلى الصعيد الإداري المحلي، فقد كان أول إجراء هو تصفية القضاء والإدارة العربيين، وتمثل ذلك في أمر صادر عن الحكم العسكري، ويقضي بحل بلدية القدس العربية؛ فأثارت عملية ضم المدينة مشاكل قانونية وحقوقية معقدة، إزاء السكان الفلسطينيين في المدينة، وأخذت هذه المشاكل تتفاقم مع تعميق إجراءات الضم، الأمر الذي استدعى إصدار عدد من التشريعات الجديدة التي تتوافق مع الإجراءات الاحتلالية.
ولعل أولى تلك القضايا كانت مشكلة المقدسيين من حيث علاقتهم بالقوانين الإسرائيلية، وتم اعتبار سكان المدينة الفلسطينيين من سكان إسرائيل لا من مواطنيها، وامتنعت السلطات الإسرائيلية عن منحهم الجنسية، وكذلك منعهم من المشاركة في الانتخابات العامة، بينما سمحت لهم بالإشتراك في الإنتخابات البلدية لمدينة القدس فقط، والتي قاطعها الفلسطينيون حتى الآن (انتخابات 2008م).
أما عن الإجراءات، وردود الفعل التي اتخذها الفلسطينيون احتجاجاً على سياسة الضم ومعارضتهم لها، فتمثلت بالتالي:
لقد لاقت إجراءات الضم معارضة ومقاومة شديدتين من أهالي المدينة، حيث رفض مجلس أمانة المدينة هذه الإجراءات، ورفض أعضاءه الانضمام إلى مجلس البلدية الإسرائيلي، وجاء رد أعضاء مجلس أمانة القدس على الدعوة التي وجهت إليهم بهذا الخصوص أنه:
1. لما كان مجرد البحث (من وجهة نظرنا الفلسطينية) في الإنضمام إلى مجلس بلدية القدس تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، وعلى الوجه الذي أعلنت عنه السلطات الإسرائيلية- هو بمثابة إعتراف رسمي منا بقبول مبدأ ضم مدينة القدس إلى القطاع الذي تحتله إسرائيل من القدس، الأمر الذي لا نسلم به كأمر واقع، ولا نقره، ونعتبره مخالفاً لميثاق هيئة الأمم المتحدة، ولقرارها في جلستها الاستثنائية الأخيرة، ومخالفاً للقانون الدولي العام. ونعتبره كذلك إجراء غير مشروع، ونطالب بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه الحال قبل 5/6/1967م.
2. وبناء على ذلك تجدوننا آسفين لعدم تلبية الدعوة لمقابلتكم والتحدث معكم بهذا الشأن.
ومن مظاهر الرفض والإستنكار من قبل الشعب الفلسطيني في المدينة أيضاً، إرسال زعماء ورجال دين ووجهاء في القدس وفلسطين مذكرة إلى الحاكم العسكري للضفة الغربية ترفض إجراءات الضم والممارسات الإسرائيلية، وإعلانهم عن تشكيل هيئة إسلامية تتولى رعاية الشؤون الدينية في الضفة الغربية بما فيها القدس، إلى أن يزول الاحتلال.
ومع تزايد المعارضة الوطنية لإجراء الضم، وخصوصاً على المستوى الجماهيري، أصبح التعبيرعن هذا الرفض يتعدى الإحتجاج والإستنكار، إلى المقاومة المسلحة، فقرر الإحتلال الإسرائيلي الرد بمختلف الوسائل على المقاومة.
وبدأ بالتدخل في الشؤون الدينية الداخلية والنفي والإبعاد، وتطورت أشكال الردع أمام استمرار المقاومة، حتى تم اتباع سياسة احتلالية أكثر تطرفاً وتمثل أبرزها في نسف المنازل والإعتقال الجماعي، وفرض منع التجوال، ومصادرة الممتلكات وإغلاق البيوت وغيرها.
الجدول التالي يوضح انتقال الأراضي من الفلسطينيين إلى اليهود في القدس منذ بداية الاحتلال البريطاني 1917م:
السنة | فلسطينيون مسلمون ومسيحيون | يهود | أجانب |
1917 | 94% | 4% | 2% |
1947 | 84% | 14% | 2% |
1967 | 25% | 73% | 2% |
1979 | 14% | 84% | 2% |
جدول يبيّن تجمعات القدس التي طرد أهلها منها عام 1948 حسب عدد السكان والمساحة
مساحة الأرض (دونم) | عدد السكان عام 1948 | تاريخ النزوح | التجمع |
8,743 | 2,958 | 1/1/1948 | لفتا |
2,979 | 278 | 1/1/1948 | بيت نقوبا |
4,629 | 302 | 1/4/1948 | بيت ثول |
4,844 | 1,056 | 3/4/1948 | قالونيا |
1,446 | 104 | 3/4/1948 | القسطل |
2,857 | 708 | 9/4/1948 | دير ياسين |
1,401 | 46 | 15/4/1948 | نتاف |
10,699 | 650 | 16/4/1948 | ساريس |
20,790 | 69,693 | 28/4/1948 | القدس (القطمون) |
16,268 | 2,784 | 10/5/1948 | بيت محسير |
4,158 | 478 | 11/7/1948 | الجوره |
5,522 | 46 | 13/7/1948 | عقور |
4,502 | 522 | 13/7/1948 | خربة اللوز |
3,775 | 626 | 13/7/1948 | صطاف |
4,102 | 719 | 13/7/1948 | صوبا |
6,828 | 2,250 | 15/7/1948 | المالحة |
3,072 | 12 | 17/7/1948 | دير عمرو |
568 | 568 | 17/7/1948 | خربة اسم الله |
8,004 | 325 | 17/7/1948 | كسلا |
403 | 406 | 18/7/1948 | عرتوف |
15,029 | 3.689 | 18/7/1948 | عين كارم |
13,242 | 499 | 18/7/1948 | دير رافات |
5,522 | 719 | 18/7/1948 | اشوع |
2,159 | 302 | 18/7/1948 | عسليين |
4,967 | 394 | 18/7/1948 | صرعة |
19,080 | 835 | 19/10/1948 | البريج |
5,907 | 2.436 | 19/10/1948 | دير أبان |
5,907 | 70 | 19/10/1948 | دير الهوا |
2,061 | 70 | 19/10/1948 | سفلى |
8,757 | 626 | 21/10/1948 | بيت عتاب |
6,013 | 81 | 21/10/1948 | بيت أم الميس |
6.781 | 255 | 21/10/1948 | دير الشيخ |
3,518 | 220 | 21/10/1948 | جرش |
8,342 | 719 | 21/10/1948 | رأس أبو عمار |
.. | .. | 21/10/1948 | خربة التنور |
4.163 | 313 | 21/10/1948 | خربة العمور |
17.708 | 1.914 | 21/10/1948 | الولجة |
12.356 | 510 | 22/10/1948 | علار |
3.806 | 302 | 22/10/1948 | القبو |
272,735 | 97,949 | المجموع |
جدول يوضح عدد السكان في القدس منذ عام 1967- 1979 (بآلاف):
السنة | الفلسطينيون | اليهود |
1967 | 68.580 | 211.710 |
1971 | 79.100 | 237.300 |
1976 | 100.300 | 282.200 |
1979 | 110.800 | 305.000 |
1983 | 126.100 | 347.700 |
1990 | 151.100 | 427.366 |
1994 | 172.800 | 473.200 |
جدول يوضح عدد السكان العرب المقدر في القدس في منتصف العام 1998- 2010:
السنة | عدد السكان الفسطينيين في القدس |
1998 | 331.553 |
2000 | 354.417 |
2001 | 367.003 |
2005 | 422.222 |
2010 | 496.445 |
المصادر:
1. كيت ماجواير: تهويد القدس، دار الآفاق الجديدة، بيروت 1981م. لقد جمعت ماجواير الأرقام التالية طبقاً لمجموعة من الإجراءات:
* جمعت أرقام عام 1938م، من قبل القس إربنسون، من المعهد اللاهوتي لمدينة نيويورك عند زيارة القدس تلك السنة.
* التعداد السكاني في الفترة التي وضعت فيها الأمم المتحدة مشروعات التقسيم.
* سجلات فلسطين، دائرة المعارف البريطانية والكتاب السنوي لحكومة فلسطين والإحصاءات الحكومية عن فلسطين.
* هنري قطان “فلسطين والقانون الدولي” باللغة الإنجليزية.
2. د.نعيم بارود، الوضع الجيوستراتيجي لمدينة القدس، الجامعة الإسلامية غزة 1999م.
3. سمير جريس، المخططات الصهيونية، الاحتلال، التهويد مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت1981 م.
4. سمير جريس، القدس، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1981م.
5. الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، القدس 1998م.
6. مركز العودة الفلسطيني، سجل النكبة – 1948، لندن، 1998م.